السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
5194 باب: تقتل عمارا الفئة الباغية

وهو في النووي، في: (الكتاب الماضي).

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم النووي ، ص41 ج18، المطبعة المصرية

(عن أم سلمة) رضي الله عنها؛ (قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "تقتل عمارا الفئة الباغية" .

وفي رواية؛ أن رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" ).


[ ص: 303 ] (الشرح)

ويوضح ذلك: حديث "أبي سعيد الخدري" عند مسلم؛ قال: أخبرني من هو خير مني: أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال لعمار -حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه، ويقول-: "بؤس ابن سمية. تقتلك فئة باغية".

وفي رواية: "ويس". أو: "يا ويس!".

و "البؤس والبأساء": المكروه، والشدة.

والمعنى: يا بؤسه! ما أشده وأعظمه!

و"ويس": بفتح الواو، وإسكان الياء.

وفي رواية البخاري: "ويح" كلمة ترحم: "وويس" تصغيرها، أي: أقل منها في ذلك .

قال الهروي: "ويح" يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، فيترحم بها عليه، ويرثى له. و"ويل": لمن يستحقها.

[ ص: 304 ] وقال الفراء: "ويح، وويس" بمعنى: "ويل".

وعن علي رضي الله عنه: "ويح": باب رحمة. وويل: باب عذاب.

وقال : "ويح" كلمة زجر، لمن أشرف على الهلكة. و"ويل": لمن وقع فيها. والله أعلم.

"والفئة": الطائفة، والفرقة.

قال أهل العلم: هذا الحديث حجة ظاهرة، في أن عليا كرم الله وجهه، كان محقا مصيبا. والطائفة الأخرى: بغاة. لكنهم مجتهدون، فلا إثم عليهم لذلك. كما تقدم في مواضع؛ منها: هذا الباب.

وفيه: معجزة ظاهرة، لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ من أوجه؛

منها: أن "عمارا" وهو ابن ياسر: يموت قتيلا. وأنه: يقتله مسلمون. وأنهم: بغاة.

وأن الصحابة: يقاتلون.

وأنهم يكونون فرقتين: باغية، وغيرها.

وكل هذا، قد وقع. مثل فلق الصبح. صلى الله على رسوله، الذي لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى . قاله النووي .

[ ص: 305 ] قلت: وحديث الباب هذا: أدل دليل على بغي من خالف عليا، بل نص في محل النزاع. لكن لا يخرج المسلم بمثل هذا البغي: عن دائرة الإسلام.

وإنما حكمه: حكم الآثم العاصي الخاطئ.

ولا ينبغي لأحد من المسلمين: أن يخوض في مشاجرات الصحابة، رضي الله عنهم.

فإن الخوض فيها: يفضي إلى شكوك، وأوهام مهلكة له، ومفسدة لإيمانه.

بل الأولى: أن يفوض هذا الأمر، إلى من قدره عليهم، وقضاه. وهو الله سبحانه.

وتلك أمة؛ قد طهر الله أيدينا عن دمائها. فلنطهر قلوبنا وألسنتنا عنها. ولا ندخل في: كيف؟ ولم؟ هذا هو المذهب الحق المختار.

وقد سئل شيخنا: الإمام العلامة "محمد بن علي الشوكاني"، رضي الله عنه: عن المذهب الحق، في شأن ما شجر بين الصحابة، في الخلافة وما يترتب عليها؟

فأجاب في "الفتح الرباني"، بما نصه؛ أقول: إن كان هذا السائل، طالبا للنجاة، مستفهما عن أقرب الأقوال إلى مطابقة مراد مولاه، كما يشعر بذلك تصرفه في سؤاله: فليدع الاشتغال بهذا الأمر، ويترك [ ص: 306 ] المرور في هذا المضيق الذي تاهت فيه الأفكار، وتحيرت عنده أبصار أهل الأبصار.

فإن هؤلاء، الذين يبحث عن حوادثهم، ويتطلع لمعرفة ما شجر بينهم: قد صاروا تحت أطباق الثرى، ولقوا ربهم في المائة الأولى من البعثة. وها نحن الآن في المائة الثالثة عشر. فما لنا، والاشتغال بهذا الشأن، الذي لا يعنينا؟

ومن حسن إسلام المرء: تركه ما لا يعنيه.

وأي فائدة لنا، في الدخول في الأمور التي فيها ريبة؟ وقد أرشدنا إلى أن ندع ما يريبنا: إلى ما لا يريبنا.

و يكفينا من تلك القلاقل والزلازل: أن نعتقد أنهم خير القرون، وأفضل الناس. وأن الخارجين على أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، المحاربين له، المصرين على ذلك، الذين لم تصح توبتهم: بغاة. وأنه المحق، وهم المبطلون.

وما زاد على هذا المقدار: فمن الفضول، الذي يشتغل به من لا يبالي بدينه.

وقد تلاعب الشيطان: بكثير من الناس، فأوقعهم في الاختلاف في خير القرون، الذين قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم في شأنهم [ ص: 307 ] -لبعض من هو من جملتهم، لكنه تأخر إسلامه عنهم-: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا: ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".

فإذا كان "مثل أحد ذهبا" من المتأخرين من الصحابة، المخاطبين بهذا الخطاب: لا يبلغ مد أحد متقدميهم، ولا نصيفه، فما أظنه يبلغ "مثل أحد ذهبا" منا: مقدار حبة من أحدهم، ولا نصيفها.

فرحم الله امرءا يشتغل بالقيام: بما أوجبه الله عليه، وطلبه منه. وترك: ما لا يعود عليه بنفع، لا في دنيا ولا في آخرة، بل يعود عليه: بالضر. لو لم يكن من الضر، إلا مجرد مخالفة ما أرشدنا إليه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ بقوله: "من حسن إسلام المرء: تركه ما لا يعنيه". فهذا، والله! مما لا يعنينا.

ومن ظن خلاف هذا: فهو مغرور، مخدوع، قاصر الباع عن إدراك الحقائق، ومعرفة الحق على وجهه: كائنا من كان.

والله! لو جاء أحدهم -يوم القيامة-: بما يملأ الدنيا من [ ص: 308 ] الحسنات: ما كان لنا من ذلك شيء.

ولو جاء أحدهم -وصانهم الله-: بما يملأ الدنيا من السيئات: ما كان علينا من ذلك شيء. ففيم التعب؟ وعلام تضييع الأوقات، في هذه الترهات؟

هذا آخر كلامه ، رحمه الله تعالى. وله من الصدق: حلاوة. وعليه من نور الحق: طلاوة. وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر.

وبالجملة: الجواب عن هذه المسألة: أن الإمساك عن الكلام فيها: أولى، وسد هذا الباب الذي لا يستفاد من فتحه إلا ما لم يتعبد الله به عباده-: أسلم وأحرى.

وكلام الطوائف في ذلك: معروف. وكل حزب بما لديهم: فرحون.

والحق: ما بين المقصر، والغالي. والصواب: في التوسط بين جانبي الإفراط والتفريط.

كلا جانبي قصد الأمور ذميم.

وحديث الباب، الثابت في الصحيح: أن عمارا تقتله الفئة الباغية، قد دل أكمل دلالة، على من بيده الحق. ومن هو مقابله.

أنك حق وهم الباطل.

[ ص: 309 ] وما ورد في قتال الخوارج، "أنها تقتلهم أولى الطائفتين بالحق": واضح الدلالة على المراد.

وقد كان بايع عليا، رضي الله عنه: من بايع أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما. وشذ عن بيعته: من شذ، بلا حجة شرعية. وطلبوا أن يمكنهم: من قتلة عثمان، رضي الله عنه؛ فقال: إن الحكم فيهم إلى الإمام -وهو إذ ذاك: الإمام-.

وقد ثبت في الصحيح؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال للحسن: "إن ابني هذا سيد. وسيصلح الله به: بين طائفتين عظيمتين، بين المسلمين"

وبالجملة: فلا يأتي التطويل في مثل هذا: بفائدة، ولا يعود بعائدة.

وقد قدموا على ما قدموا. "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت" . ولم يكلفنا الله: بشيء من هذا. بل أرشدنا إلى ما قصه علينا في كتابه العزيز؛ [ ص: 310 ] بقوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا الآية.

فرحم الله امرءا قال خيرا، أو صمت. وأقمى من زاد على هذا وتعدى.

ويكفي في كفر الرافضة، قوله تعالى: ليغيظ بهم الكفار وورود الخبر عن سيد البشر بقتلهم، وأنهم مشركون.

وكذلك الخوارج، فإنهم "كلاب النار".

وليست "الفرقة الناجية"، إلا التي هي على ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه الذين هم خير القرون. وهذا منصوص السنة الصحيحة، وليس بعد بيان الله وبيان رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم: بيان. ولا قرية بعد "عبادان".

وإن كان كل فرقة من الفرق الضالة المضلة: تزعم أنها ناجية، وأنها على الحق. ولكن لا يساعد كلام النبوة، إلا للمتبعين بالكتاب والسنة.


وكل يدعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك



وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

[ ص: 311 ] اللهم! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية