السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
206 باب في رفع الأمانة والإيمان: من القلوب

وهو في الجزء الأول من النووي، في: (باب رفع الأمانة والإيمان، من بعض القلوب. وعرض الفتن على القلوب).

[ ص: 371 ] (حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم النووي ، ص167 - 170 ج2، المطبعة المصرية

(عن حذيفة؛ قال: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر؛

حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة"
.

ثم حدثنا عن رفع الأمانة؛ قال: "ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت. ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل المجل. كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبرا، وليس فيه شيء -ثم أخذ حصى، فدحرجه على رجله- فيصبح الناس يتبايعون؛ لا يكاد أحد يؤدي الأمانة. حتى يقال: إن في بني فلان، رجلا أمينا. حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه: مثقال حبة -من خردل- من إيمان" .

ولقد أتى علي زمان، وما أبالي: أيكم بايعت. لئن كان مسلما، ليردنه، علي: دينه. ولئن كان نصرانيا، أو يهوديا، ليردنه علي: ساعيه.

وأما اليوم، فما كنت لأبايع منكم: إلا فلانا وفلانا ).


[ ص: 372 ] (الشرح) (عن حذيفة) رضي الله عنه؛ (قال: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: حديثين) أي: في الأمانة. وإلا، فروايات "حذيفة" كثيرة، في الصحيحين وغيرهما.

(قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر).

قال "صاحب التحرير": عنى "بأحد الحديثين" قوله: (حدثنا أن الأمانة، نزلت في جذر قلوب الرجال).

وبالثاني: قوله: "ثم حدثنا عن رفع الأمانة" إلى آخره.

"والجذر": بفتح الجيم، وكسرها. لغتان. وبالذال المعجمة فيهما. وهو "الأصل".

وقال عياض: مذهب الأصمعي -في هذا الحديث-: فتح الجيم. وأبو عمرو بكسرها.

"وأما الأمانة"، فالظاهر: أن المراد بها: التكليف، الذي كلف الله به عباده. والعهد، الذي أخذه عليهم. قال الواحدي - في قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال -: قال ابن عباس: هي الفرائض، التي افترضها الله تعالى على العباد. وقال الحسن: هو الدين. والدين كله أمانة. وقال أبو العالية: "الأمانة": ما أمروا به، وما نهوا عنه. وقال مقاتل: "الأمانة": الطاعة.

[ ص: 373 ] قال الواحدي: وهذا قول أكثر المفسرين.

قال: فالأمانة في قول جميعهم: الطاعة، والفرائض التي يتعلق بأدائها: الثواب، وبتضييعها: العقاب.

وقال صاحب التحرير: "الأمانة في الحديث": هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة . وهي عين الإيمان. فإذا استمكنت الأمانة من قلب العبد: قام حينئذ بأداء التكاليف، واغتنم ما يرد عنه منها، وجد في إقامتها.

(ثم نزل القرآن: فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة). وهذا: شأن خير القرون، المشهود لها بالخير. لأنهم كانوا عالمين بهذين الأصلين الكريمين، وعاملين بهما: في كل ما يأتي ويذر.

ثم خلف من بعدهم خلف، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وفشى فيهم الكذب، وترك العلم والعمل بهما. وقام مقامهما: تقليدات الأحبار والرهبان، وإيثار الآراء على النصوص. وكان أمر الله قدرا مقدورا .

وكل آفة دخلت في الأمانة، فأصلها: خلط العقل بالنقل. وزاد عليه الكلام.

[ ص: 374 ] (ثم حدثنا عن رفع الأمانة) أي: الدين؛ (فقال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت): بفتح الواو، وإسكان الكاف، وبالتاء الفوقية. وهو الأثر اليسير. كذا قال الهروي.

وقال غيره: هو سواد يسير.

وقيل: هو لون يحدث، مخالف للون الذي كان قبله.

(ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل): بفتح الميم، وإسكان الجيم وفتحها. لغتان، حكاهما "صاحب التحرير". والمشهور: الإسكان.

يقال منه: "مجلت يده" بكسر الجيم، "تمجل" بفتحها. "مجلا" بفتحها أيضا. و"مجلت" بفتح الجيم، "تمجل" بضمها. "مجلا" بإسكانها؛ لغتان مشهورتان. و"أمجلها غيرها".

قال أهل اللغة، والغريب: "المجل" هو التنفط الذي يصير في اليد، من العمل بفأس أو نحوها. ويصير كالقبة، فيه ماء قليل. انتهى .

قلت: وهو بالفارسية: "آبله".

[ ص: 375 ] (كجمر دحرجته على رجلك، فنفط. فتراه منتبرا، وليس فيه شيء).

"الجمر، والدحرجة": معروفان.

"ونفط": بفتح النون، وكسر الفاء. ويقال: "تنفط": بمعناه.

و"منتبرا". أي: مرتفعا. و أصل هذه اللفظة: الارتفاع. ومنه: "المنبر" لارتفاعه، وارتفاع الخطيب عليه.

وقوله: "نفط" ولم يقل: "نفطت". مع أن الرجل مؤنثة؛

إما أن يكون ذكر "نفط": إتباعا للفظ الرجل.

وإما أن يكون إتباعا لمعنى الرجل. وهو العضو.

(ثم أخذ حصاة، فدحرجها على رجله).

وفي رواية: "أخذ حصى، فدحرجه" . قال النووي : هكذا ضبطناه. وهو ظاهر.

ووقع في أكثر الأصول "حصاة". وهو صحيح أيضا. ويكون معناه: دحرج ذلك المأخوذ، أو الشيء. وهو الحصاة. والله أعلم.

[ ص: 376 ] قال "صاحب التحرير": معنى الحديث: أن الأمانة تزول عن القلوب، شيئا فشيئا؛

فإذا زال أول جزء منها: زال نورها، وخلفته ظلمة كالوكت. وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله.

فإذا زال شيء آخر: صار كالمجل وهو أثر محكم، لا يكاد يزول، إلا بعد مدة. وهذه الظلمة فوق التي قبلها.

ثم شبه "زوال ذلك النور: بعد وقوعه في القلب، وخروجه: بعد استقراره فيه، واعتقاب الظلمة إياه: (بجمر يدحرجه على رجله، حتى يؤثر فيها. ثم يزول الجمر، ويبقى التنفط).

وأخذه الحصاة ودحرجته إياها، أراد بها: زيادة البيان، وإيضاح المذكور. والله أعلم.

(فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان، رجلا أمينا. حتى يقال للرجل: ما أجلده! وما أظرفه! وما أعقله! وما في قلبه: مثقال حبة من خردل، من إيمان).

فيه: علم من أعلام النبوة. حيث وقع ووجد: مصداق ذلك. وأن أجلد الناس، وأظرفهم، وأعقلهم -في هذا الزمان-: أبعدهم من سلوك مسالك الإيمان.

[ ص: 377 ] ومن سلك منهم -على قلة شديدة-: منهج التقوى والدين، فهو -عند أهل الزمان-: من السفهاء الحمقاء، الغافلين. ليس له وزن على قدر درهم.

والذي أضاع الأمانة، وصارت ديانته الخيانة: هو المشار إليه بالبنان، في كمال العقل والبرهان. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبالجملة؛ فالناس كالمائة الإبل، لا تكاد تجد فيها راحلة. وهذا من الوضوح: بمكان لا يخفى.

وهذا من أشراط الساعة الكبرى. والله أعلم.

(ولقد أتى علي زمان، وما أبالي: أيكم بايعت. لئن كان مسلما، ليردنه علي: دينه. ولئن كان نصرانيا أو يهوديا، ليردنه علي: ساعيه.

وأما اليوم، فما كنت لأبايع إلا فلانا، وفلانا).

معنى المبايعة هنا: البيع والشراء، المعروفان.

ومراده: أني كنت أعلم؛ أن الأمانة لم ترتفع. وأن في الناس وفاء بالعهود. فكنت أقدم على مبايعة من اتفق، غير باحث عن حاله: وثوقا بالناس، وأمانتهم.

فإنه إن كان مسلما، فدينه وأمانته: تمنعه من الخيانة، وتحمله على أداء الأمانة.

وإن كان كافرا، فساعيه -وهو الوالي عليه- كان أيضا يقوم بالأمانة، في ولايته، فيستخرج حقي منه.

[ ص: 378 ] وأما اليوم؛ فقد ذهبت الأمانة. فما بقي لي وثوق بمن أبايعه: إلا بالساعي في أدائهما الأمانة. فما أبايع: إلا فلانا، وفلانا.

يعني: أفرادا من الناس أعرفهم، وأثق بهم.

قال صاحب التحرير، والقاضي عياض: وحمل بعض العلماء "المبايعة" هنا: على بيعة الخلافة، والتحالف في أمور الدين. قالا: وهذا خطأ من قائله. وفي هذا الحديث: مواضع تبطل قوله؛

منها قوله: "كان نصرانيا، أو يهوديا".

ومعلوم: أن النصراني، واليهودي: لا يعاقد على شيء من أمور الدين. والله أعلم. هذا آخر كلام النووي، رحمه الله .

وفيه : شكاية "حذيفة"، رضي الله عنه: من أهل الزمان، وحكاية تغير حال الإنسان.

وإذا كان هذا الحال في زمانه، فكيف بزماننا هذا؛ الذي مرجت فيه العهود، وضاعت فيه الحدود، وانحلت العقود، وظهر الفساد في البر والبحر؟ اللهم! ثبت قلوبنا، على دينك.

التالي السابق


الخدمات العلمية