السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
5327 باب في الصبر على الدين عند الابتلاء ، وقصة أصحاب الأخدود

ولفظ النووي : (باب قصة أصحاب الأخدود ، والساحر والراهب والغلام ) .

(حديث الباب )

وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 130 - 133 ج 18 ، المطبعة المصرية

(عن صهيب ؛ أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : «كان ملك -فيمن كان قبلكم- ، وكان له ساحر . فلما كبر ، قال للملك : إني قد كبرت ، فابعث إلي غلاما ، أعلمه السحر .

[ ص: 552 ] فبعث إليه : غلاما ، يعلمه . فكان في طريقه -إذا سلك- : راهب ، فقعد إليه ، وسمع كلامه ، فأعجبه . فكان إذا أتى الساحر : مر بالراهب ، وقعد إليه . فإذا أتى الساحر : ضربه .

فشكا ذلك إلى الراهب ؛ فقال : إذا خشيت الساحر ، فقل : حبسني أهلي . وإذا خشيت أهلك ، فقل : حبسني الساحر .

فبينما هو كذلك ، إذ أتى على دابة عظيمة ، قد حبست الناس .

فقال : اليوم ، أعلم : آلساحر أفضل ، أم الراهب أفضل ؟

فأخذ حجرا ، فقال : اللهم ! إن كان أمر الراهب ، أحب إليك من أمر الساحر : فاقتل هذه الدابة ، حتى يمضي الناس . فرماها ، فقتلها ، ومضى الناس . فأتى الراهب ، فأخبره .

فقال له الراهب : أي بني ! أنت -اليوم- أفضل مني . قد بلغ من أمرك : ما أرى .



وإنك ستبتلى . فإذا ابتليت : فلا تدل علي .

وكان الغلام يبرئ : الأكمه ، والأبرص . ويداوي الناس : من سائر الأدواء .

فسمع جليس للملك -كان قد عمي- ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ما هاهنا لك «أجمع » ، إن أنت شفيتني . فقال : إني لا أشفي أحدا . إنما يشفي : الله . فإن أنت آمنت بالله : دعوت الله ، فشفاك . فآمن بالله : فشفاه الله .

[ ص: 553 ] فأتى الملك ، فجلس إليه ، كما كان يجلس . فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي .

قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك : الله .

فأخذه ، فلم يزل يعذبه ، حتى دل على الغلام . فجيء بالغلام ، فقال له الملك : أي بني !

قد بلغ من سحرك : ما تبرئ الأكمه ، والأبرص ، وتفعل ، وتفعل ؟

فقال : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي : الله .

فأخذه ، فلم يزل يعذبه ، حتى دل على الراهب . فجيء بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى . فدعا بالمئشار ، فوضع المئشار في مفرق رأسه ، فشقه به ، حتى وقع شقاه .

ثم جيء بجليس الملك ، فقيل له : ارجع عن دينك . فأبى ، فوضع المئشار في مفرق رأسه ، فشقه به ، حتى وقع شقاه .

ثم جيء بالغلام ؛ فقيل له : ارجع عن دينك . فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته -فإن رجع عن دينه- ، وإلا فاطرحوه .

فذهبوا به ، فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم ! اكفنيهم بما شئت . فرجف بهم الجبل ، فسقطوا . وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟

قال : كفانيهم الله .

فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به ، فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحر ، -فإن رجع عن دينه- ، وإلا فاقذفوه .

[ ص: 554 ] فذهبوا به ، فقال : اللهم ! اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا .

وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله .

فقال للملك : إنك لست بقاتلي ، حتى تفعل ما آمرك به . قال : وما هو ؟

قال : تجمع الناس -في صعيد واحد- ، وتصلبني على جذع . ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس .

ثم قل : باسم الله ، رب الغلام . ثم ارمني . فإنك إذا فعلت ذلك : قتلتني .

فجمع الناس -في صعيد واحد- ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم -في كبد القوس- ثم قال : باسم الله ، رب الغلام ، ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه ، في موضع السهم : فمات . فقال الناس : آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام .

فأتي الملك ، فقيل له : أرأيت ! ما كنت تحذر ، قد والله ! نزل بك حذرك . قد آمن الناس . فأمر بالأخدود -في أفواه السكك- ، فخدت ، وأضرم النيران . وقال : من لم يرجع عن دينه : فأحموه فيها . أو قيل له : اقتحم . ففعلوا . حتى جاءت امرأة -ومعها صبي لها- ، فتقاعست : أن تقع فيها . فقال لها الغلام : يا أمه ! اصبري . فإنك على الحق » ) .

[ ص: 555 ] (الشرح)

(عن صهيب ) رضي الله عنه ؛ ( أن رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ؛ قال : «كان ملك - فيمن كان قبلكم - ، وكان له ساحر . فلما كبر ، قال للملك : إني قد كبرت ، فابعث إلي غلاما ، أعلمه السحر . فبعث إليه غلاما يعلمه ، فكان في طريقه - إذا سلك - راهب ، فقعد إليه ، وسمع كلامه فأعجبه . فكان إذا أتى الساحر : مر بالراهب وقعد إليه . فإذا أتى الساحر : ضربه . فشكا ذلك إلى الراهب ؛ فقال : إذا خشيت الساحر ، فقل : حبسني أهلي . وإذا خشيت أهلك ، فقل : حبسني الساحر . فبينما هو كذلك ، إذ أتى على دابة عظيمة ، قد حبست الناس . فقال : اليوم ، أعلم : الساحر أفضل ، أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجرا ، فقال : اللهم ! إن كان أمر الراهب ، أحب إليك من أمر الساحر : فاقتل هذه الدابة ، حتى يمضي الناس . فرماها ، فقتلها ، ومضى الناس . فأتى الراهب ، فأخبره فقال له الراهب : أي بني ! أنت - اليوم - أفضل مني . قد بلغ من أمرك ما أرى . وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت : فلا تدل علي . وكان الغلام يبرئ الأكمه ) أي : الذي خلق أعمى (والأبرص ، ويداوي [ ص: 556 ] الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك - كان قد عمي - فأتاه : بهدايا كثيرة ، فقال : ما ههنا لك أجمع ، إن أنت شفيتني . قال : إني لا أشفي أحدا . إنما يشفي : الله . فإن أنت آمنت بالله : دعوت الله ، فشفاك . فآمن بالله : فشفاه الله فأتى الملك - ، فجلس إليه كما كان يجلس . فقال له الملك . من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي . قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك : الله . فأخذه ، فلم يزل يعذبه ، حتى دل على الغلام . فجيء بالغلام ، فقال له الملك : أي بني ! قد بلغ من سحرك : ما تبرئ الأكمه ، والأبرص ، وتفعل ، وتفعل ؟ فقال : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله عز وجل . فأخذه ، فلم يزل يعذبه ، حتى دل على الراهب . فجيء بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى . فدعا بالمئشار) : مهموز في رواية الأكثرين . ويجوز تخفيف الهمزة ، بقلبها ياء .

وروي «المنشار » : بالنون .

قال النووي : وهما لغتان صحيحتان .

[ ص: 557 ] (فوضع المئشار في مفرق رأسه ، فشقه به ، حتى وقع شقاه . ثم جيء بجليس الملك ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى . فوضع المئشار في مفرق رأسه ، فشقه به حتى وقع شقاه . ثم جيء بالغلام ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى . فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل . فإذا بلغتم ذروته ) . «ذروة الجبل » : أعلاه . وهي بضم الذال وكسرها .

(- فإن رجع عن دينه - وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به ، فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم ! اكفنيهم بما شئت . فرجف بهم الجبل ) أي : اضطرب ، وتحرك حركة شديدة .

وحكى عياض عن بعضهم أنه رواه : «فزحف » بالزاي . وهو بمعنى «الحركة » . لكن الأول هو الصحيح المشهور .

(فسقطوا . وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به ، فاحملوه في قرقور ) : بضم القافين : «السفينة الصغيرة » . وقيل : الكبيرة . واختار عياض : «الصغيرة » ، بعد حكايته خلافا كثيرا .

(فتوسطوا به البحر - فإن رجع عن دينه - وإلا ، فاقذفوه . فذهبوا به . فقال : اللهم ! اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ) . أي : انقلبت ، (فغرقوا . وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل [ ص: 558 ] أصحابك ؟ » فقال : كفانيهم الله . فقال للملك : أنت لست بقاتلي ، حتى تفعل ما آمرك به . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس ، في صعيد واحد ) الصعيد هنا : الأرض البارزة .

(وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ) أي : مقبضها ، عند الرمي .

(ثم قل : بسم الله ، رب الغلام : ثم ارمني . فإنك إذا فعلت ذلك : قتلتني . فجمع الناس - في صعيد واحد - وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال : بسم الله ، رب الغلام . ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه موضع السهم : فمات . فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام . فأتي الملك ، فقيل له : أرأيت ! ما كنت تحذر ، قد والله ! نزل بك حذرك ) أي : ما كنت تحذر وتخاف : (قد آمن الناس . فأمر بالأخدود ) : وهو الشق العظيم ، المستطيل في الأرض «كالخندق » وجمعه : «أخاديد » .

ومنه «الخد » لمجاري الدموع . «والمخدة ، لأن الخد يوضع عليها .

ويقال : «تخدد وجه الرجل » : إذا صارت فيه أخاديد «من جرح» .

كذا في «فتح البيان » .

[ ص: 559 ] (بأفواه السكك ) : الطرق ، وأفواهها : أبوابها (فخدت ، وأضرم النيران . وقال : من لم يرجع عن دينه ، فأحموه فيها ) . هكذا هو في عامة النسخ : «فأحموه » بهمزة قطع ، بعدها حاء ساكنة . ونقل عياض : اتفاق النسخ على هذا . ووقع في بعض نسخ بلاد النووي : «فأقحموه » بالقاف . وهذا ظاهر . ومعناه : اطرحوه فيها كرها .

ومعنى الرواية الأولى : ارموه فيها . من قولهم : «حميت الحديدة ، وغيرها » : إذا أدخلتها النار ، لتحمى .

(أو قيل له : اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأة ، ومعها صبي لها . فتقاعست أن تقع فيها ) أي : توقفت ، ولزمت موضعها ، وكرهت الدخول في النار .

(فقال لها الغلام : يا أمه ! اصبري ، فإنك على الحق ) .

قال في (فتح البيان ، في مقاصد القرآن ) : ولهذه القصة ألفاظ ، فيها بعض اختلاف . وقد رواها مسلم : في آخر الصحيح . وأحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وعبد بن حميد ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، والطبراني . انتهى .

وفي بعض ألفاظها : «أما الغلام ، فإنه دفن ، ثم أخرج » ؛ فيذكر : [ ص: 560 ] أنه خرج في زمن «عمر بن الخطاب » ، وإصبعه على صدغه ، كما وضعها حين قتل .

وقال علي كرم الله وجهه : «أصحاب الأخدود » هم الحبشة .

وعن ابن عباس ؛ قال : هم ناس ، من بني إسرائيل .

قال مقاتل : كانت الأخاديد ثلاثة : واحدة : بنجران باليمن . وأخرى : بالشام . وأخرى : بفارس : حرق أصحابها بالنار ؛ فأما التي بالشام : فهو «إبطاموس » الرومي .

وأما التي بفارس : « فبختنصر » .

ويزعمون أنهم أصحاب « دانيال » .

وأما التي باليمن : «فذو نواس » .

فأما التي بالشام ، وفارس : فلم ينزل الله فيهم قرآنا . وأنزل في التي بنجران اليمن ، وذلك : لأن هذه القصة ، كانت مشهورة عند أهل مكة . فذكرها الله تعالى لأصحاب رسوله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، يحملهم بذلك : على الصبر ، وتحمل المكاره في الدين .

قال الله تعالى : « قتل أصحاب الأخدود . النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد .

[ ص: 561 ] كذا في (فتح البيان ) .

قال النووي : هذا الحديث فيه : إثبات كرامات الأولياء .

وفيه : جواز الكذب في الحرب ونحوها ، وفي إنقاذ النفس من الهلاك : سواء نفسه ، أو نفس غيره ، ممن له حرمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية