السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
179 باب في قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ، يحاسبكم به الله

وقال النووي - في الجزء الأول - (باب بيان تجاوز الله تعالى : عن حديث النفس ، والخواطر بالقلب «إذا لم تستقر » ، وبيان أنه سبحانه وتعالى : لم يكلف إلا ما يطاق ، وبيان حكم الهم : بالحسنة ، وبالسيئة ) .

(حديث الباب )

وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 145 ، 146 ج 2 ، المطبعة المصرية

[ ص: 644 ] (عن أبي هريرة ؛ قال : لما نزلت على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .

قال : فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فأتوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم بركوا على الركب ، فقالوا : أي رسول الله ! كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة .

وقد أنزلت عليك : هذه الآية ، ولا نطيقها .

قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : «أتريدون أن تقولوا -كما قال أهل الكتابين من قبلكم- : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير » .

قالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير .

فلما اقترأها القوم : ذلت بها ألسنتهم . فأنزل الله -في إثرها- : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .

فلما فعلوا ذلك : نسخها الله تعالى ؛ فأنزل الله عز وجل : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : نعم » . [ ص: 645 ] ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : نعم » . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال : نعم » . واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال : نعم » ) .



(الشرح)

(عن أبي هريرة ) رضي الله عنه ؛ (قال : لما نزلت على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : « لله ما في السماوات وما في الأرض ، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير قال ) إنما أعاد لفظة «قال » : لطول الكلام . فإن أصل الكلام : «لما نزلت اشتد » . فلما طال : حسن إعادة لفظة «قال » . وإنه جاء مثله في القرآن العزيز ، في قوله تعالى : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون فأعاد «أنكم » ، وقوله : «ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم » إلى قوله : «فلما جاءهم » .

(فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم بركوا على الركب ، [ ص: 646 ] فقالوا : أي رسول الله ! كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة . وقد أنزلت عليك هذه الآية . لا نطيقها . قال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم- : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » . قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ، وإليك المصير . فلما اقترأها القوم : ذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله في إثرها ) هو بفتح الهمزة والثاء ، وبكسر الهمزة مع إسكان الثاء : لغتان ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) أي : لا نفرق بينهم في الإيمان فنؤمن ببعضهم ونكفر ببعض ؛ كما فعله أهل الكتابين . بل نؤمن بجميعهم .

«وأحد » في هذا الموضع ، بمعنى «الجميع » . ولهذا دخلت فيه «بين » .

ومثله قوله تعالى : « فما منكم من أحد عنه حاجزين .

( وقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ، وإليك المصير . فلما فعلوا ذلك : نسخها الله تعالى ؛ فأنزل الله عز وجل : « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا «قال : نعم » . [ ص: 647 ] « ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . «قال : نعم » . « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . «قال : نعم » . « واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين «قال : نعم » ) .

هذا الحديث ؛ أخرجه أيضا : أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم .

وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي (عن ابن عباس ، مرفوعا ) : نحوه . وزاد : «فأنزل الله : « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . (قال : قد فعلت ) . « ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا (قال : قد فعلت ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به (قال : قد فعلت ) . واعف عنا واغفر لنا وارحمنا . . . الآية (قال : قد فعلت ) .

وقد رويت هذه القصة «عن ابن عباس » : من طرق . ومما يؤيد ذلك : ما ثبت في الصحيحين ، والسنن الأربع : من حديث « أبي هريرة » ؛ قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : « إن الله تجاوز لي عن أمتي : ما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم ، أو تعمل به » .

[ ص: 648 ] وقد نظم بعضهم : مراتب القصد ، بقوله :


مراتب القصد خمس : هاجس ذكروا وخاطر فحديث النفس ، فاستمعا     يليه هم ، فعزم ، كلها رفعت
سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا



وتمام الكلام على هذا المرام ، في تفسيرنا (فتح البيان )، إن شئت فراجعه .

قال النووي : قال المازري : يحتمل أن يكون إشفاقهم ، وقولهم : «لا نطيقها » : لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه : من الخواطر ، التي لا تكتسب . فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق . وعندنا أن تكليف «ما لا يطاق » : جائز عقلا . واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة ، أم لا ؟ والله أعلم .

قال : وفي تسمية هذا «نسخا » : نظر ، لأنه إنما يكون نسخا ، إذا تعذر البناء ، ولم يمكن رد إحدى الآيتين إلى الأخرى . وقوله تعالى : « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه : عموم ، يصح أن يشتمل على : ما يملك من الخواطر ، دون ما لا يملك . فتكون الآية الأخرى : مخصصة . إلا أن يكون قد فهمت الصحابة - بقرينة الحال - أنه تقرر تعبدهم بما لا يملك من الخواطر ، فيكون حينئذ نسخا . لأنه رفع ثابت مستقر . انتهى .

[ ص: 649 ] قال عياض : لا وجه لإبعاد النسخ - في هذه القضية - ، فإن راويها ، قد روى فيها النسخ ، ونص عليه لفظا ومعنى : بأمر النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم : بالإيمان ، والسمع ، والطاعة : لما أعلمهم الله تعالى من مؤاخذته إياهم . فلما فعلوا ذلك ، وألقى الله تعالى الإيمان في قلوبهم ، وذلت بالاستسلام لذلك : ألسنتهم ، كما نص عليه في هذا الحديث : رفع الحرج عنهم ، ونسخ هذا التكليف . «وطريق علم النسخ » : إنما هو بالخبر عنه ، أو بالتاريخ ، وهما مجتمعان في هذه الآية .

قال : وقول المازري : إنما يكون نسخا إذا تعذر البناء : كلام صحيح ، فيما لم يرد فيه النص بالنسخ . فإن ورد : وقفنا عنده . لكن اختلف أصحاب الأصول في قول الصحابي : «نسخ كذا بكذا » ؛ هل يكون حجة يثبت به النسخ ، أم لا يثبت بمجرد قوله ؟ وهو قول القاضي «أبي بكر » ، والمحققين منهم ، لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله ، فلا يكون نسخا ، حتى ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

وقد اختلف الناس في هذه الآية ؛

فأكثر المفسرين - من الصحابة ، ومن بعدهم - : على ما تقدم فيها من النسخ . وأنكره بعض المتأخرين . قال : لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار . وليس كما قال هذا المتأخر ، فإنه - وإن كان خبرا - فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة : بما تكن النفوس . والتعبد بما أمرهم النبي ، صلى الله [ ص: 650 ] عليه وسلم في الحديث بذلك ، وأن يقولوا : سمعنا وأطعنا . وهذه أقوال وأعمال : اللسان ، والقلب . ثم نسخ ذلك عنهم : برفع الحرج ، والمؤاخذة .

وروي عن بعض المفسرين : أن معنى النسخ هنا : «إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق : من هذا الأمر » ، فأزيل عنهم : بالآية الأخرى ، واطمأنت نفوسهم . وهذا القائل يرى : أنهم لم يلزموا : ما لا يطيقون ، لكن ما يشق عليهم من «التحفظ من خواطر النفس ، وإخلاص الباطن » ، فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك : ما لا يطيقون ، فأزيل عنهم الإشفاق ، وبين أنهم «لم يكلفوا إلا وسعهم » . وعلى هذا : لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق ، إذ ليس فيه نص على تكليفه .

واحتج بعضهم : باستعاذتهم منه ، بقوله تعالى : «ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، ولا يستعيذون إلا مما يجوز التكليف به .

وأجاب عن ذلك بعضهم : بأن معنى ذلك : «ما لا نطيقه إلا بمشقة » .

وذهب بعضهم : إلى أن الآية محكمة في إخفاء اليقين والشك - للمؤمنين والكافرين - ؛ فيغفر للمؤمنين ، ويعذب الكافرين . هذا آخر كلام عياض . وذكر الواحدي الاختلاف في نسخ الآية ، ثم قال : المحققون يختارون أن تكون الآية محكمة ، غير منسوخة . والله أعلم . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية