السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
681 [ ص: 807 ] سورة الجن : باب في قوله تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن

وقال النووي ، في الجزء الثاني ، في (باب الجهر بالقراءة في الصبح ، والقراءة على الجن ) .

(حديث الباب )

وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 167 ، 168 ج4 ، المطبعة المصرية

عن ابن عباس ؛ قال : ما قرأ رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : على الجن ، وما رآهم . انطلق رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في طائفة -من أصحابه- عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم . فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث . فاضربوا مشارق الأرض ، ومغاربها ؛ فانظروا : ما هذا الذي حال بيننا ، وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا : يضربون مشارق الأرض ، ومغاربها .

فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة -وهو بنخل- عامدين إلى سوق عكاظ- وهو يصلي بأصحابه : صلاة الفجر- فلما سمعوا القرآن : استمعوا له ، وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء .

فرجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ، فأنزل الله عز وجل على [ ص: 808 ] نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) .



(الشرح)

(عن ابن عباس ) ، رضي الله عنهما ؛ (قال : ما قرأ رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم على الجن ، وما رآهم ) .

وفي حديث « ابن مسعود » يرفعه : قال : أتاني داعي الجن ، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن إلخ . وقد تقدم في الكتاب ، فراجعه .

قال العلماء : هما قضيتان ؛

فحديث « ابن عباس » في أول الأمر ، وأول النبوة حين أتوا فسمعوا : قراءة قل أوحي .

واختلف المفسرون : هل علم النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم استماعهم - حال استماعهم - : بوحي أوحي إليه ؟ أم لم يعلم بهم إلا بعد ذلك ؟

[ ص: 809 ] وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى ، جرت بعد ذلك بزمان ، «والله أعلم بقدره » . وكان بعد اشتهار الإسلام .

(انطلق رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، في طائفة من أصحابه : عامدين إلى سوق عكاظ ) : بضم العين ، وبالظاء المعجمة - يصرف ، ولا يصرف - .

«والسوق » : تؤنث ، وتذكر . لغتان .

قيل : سميت بذلك : لقيام الناس فيها على سوقهم .

ذكر ابن إسحاق ، وابن سعد : أن ذلك كان في «ذي القعدة » ، سنة عشر من المبعث ، لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ، ثم رجع منها . فتكون القصة قبل الإسراء . ولكن لم يكن معه من أصحابه : إلا «زيد بن حارثة » . وهنا قال : «في طائفة من أصحابه » . فلعلها كانت وجهة أخرى . ويمكن الجمع : بأنه لما رجع ، لاقاه بعض [ ص: 810 ] أصحابه في أثناء الطريق ، فوافقوه . قاله الحافظ في (الفتح ) ، وبسط الكلام عليه ، فراجعه .

(وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ) .

ظاهر هذا الكلام : أن هذا حدث بعد نبوة نبينا ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن قبلها . ولهذا أنكرته الشياطين ، وارتاعت له ، وضربوا مشارق الأرض ومغاربها : ليعرفوا خبره . ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ، حتى قطع بين الشياطين ، وبين صعود السماء واستراق السمع . كما أخبر الله تعالى عنهم : أنهم قالوا : وأنا لمسنا السماء ، فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . وقد جاءت أشعار العرب باستغرابهم رميها : لكونهم لم يعهدوه قبل النبوة . وكان رميها من دلائل النبوة .

وقال جماعة من العلماء : ما زالت الشهب - منذ كانت الدنيا - . وهو قول ابن عباس ، والزهري ، وغيرهما . وقد جاء ذلك في أشعار العرب ، وروى فيه ابن عباس حديثا .

قيل للزهري : فقد قال الله تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ، فقال : كانت الشهب قليلة ، فغلظ أمرها وكثرت - حين بعث نبينا ، [ ص: 811 ] صلى الله عليه وآله وسلم - وقال المفسرون نحو هذا ، وذكروا : أن الرمي بها ، وحراسة السماء : كانت موجودة قبل النبوة ، ومعلومة . ولكن إنما كانت تقع عند حدوث أمر عظيم : (من عذاب ينزل بأهل الأرض ، أو إرسال رسول إليهم ) وعليه تأولوا قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ؟

وقيل كانت الشهب - قبل - مرئية ومعلومة ، لكن رجم الشياطين وإحراقهم ، لم يكن إلا بعد نبوة نبينا ، صلى الله عليه وآله وسلم .

واختلفوا في إعراب قوله تعالى : «رجوما » ، وفي معناه ؛

فقيل : هو «مصدر » فتكون الكواكب هي الراجمة المحرقة - بشهبها ، لا بأنفسها - .

وقيل : هو «اسم » فتكون هي بأنفسها التي يرجم بها ، ويكون «رجوم » : جمع «رجم » بفتح الراء . والله أعلم . هذا آخر كلام النووي رحمه الله .

(فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث . فاضربوا مشارق الأرض ، ومغاربها ) معناه : سيروا فيها كلها . [ ص: 812 ] ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا يخرج الرجلان : يضربان الغائط » إلخ .

(فانظروا : ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا : يضربون مشارق الأرض ، ومغاربها . فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة ، وهو بنخل ) هكذا وقع في مسلم . وصوابه : «بنخلة » بالهاء . وهو موضع معروف هناك . كذا جاء صوابه في (صحيح البخاري ) . ويحتمل أنه يقال فيه : «نخل ونخلة » .

وأما «تهامة » : فبكسر التاء . هو اسم لكل ما نزل عن نجد - من بلاد الحجاز - ومكة : من تهامة .

قال ابن فارس في «المجمل » : سميت «تهامة » من «التهم » بفتح التاء والهاء : وهو شدة الحر ، وركود الريح .

وقال صاحب «المطالع » : سميت بذلك : لتغير هوائها . يقال : «تهم الدهن » : إذا تغير .

وذكر الحازمي ، أنه يقال في أرض تهامة : «تهائم » .

(عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر . فلما سمعوا القرآن : استمعوا له ، وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ) .

[ ص: 813 ] فيه : الجهر بالقراءة «في الصبح » .

وفيه : إثبات صلاة الجماعة ، وأنها مشروعة في السفر ، وأنها كانت مشروعة من أول النبوة .

(فرجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ! «إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا » ) .

قال المازري : ظاهر الحديث : أنهم آمنوا - عند سماع القرآن ولا بد لمن آمن عند سماعه : أن يعلم حقيقة الإعجاز ، وشروط المعجزة ، وبعد ذلك : يقع له العلم بصدق الرسول . فيكون الجن علموا ذلك : من كتب الرسل المتقدمين قبلهم - على أنه هو النبي الصادق ، المبشر به - .

قال النووي : واتفق العلماء على أن الجن : يعذبون في الآخرة - على المعاصي - قال الله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة ، والناس أجمعين .

واختلفوا أن مؤمنهم ومطيعهم : هل يدخل الجنة وينعم بها ( «ثوابا ومجازاة » له على طاعته ) ، أم لا يدخلون ويكون ثوابهم أن ينجوا من النار ، ثم يقال : كونوا ترابا كالبهائم ؟ وهذا مذهب ابن أبي سليم ، وجماعة .

والصحيح : أنهم يدخلونها ، وينعمون فيها : بالأكل والشرب ، وغيرهما . وهذا قول الحسن البصري ، والضحاك ، ومالك بن أنس ، وابن أبي ليلى ، وغيرهم .

[ ص: 814 ] (فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) .

قال في (فتح البيان ) : سورة «الجن » نزلت بمكة ، وهي ثمان وعشرون آية - في قول الجميع - وتسمى : «سورة قل أوحي » .

قال واختلف : هل رآهم النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، أم لم يرهم ؟ وظاهر القرآن : أنه لم يرهم .

وروى « ابن مسعود » أنه رآهم . ورجحه العلماء .

والحق : صحتهما . وأن الأول : وقع أولا ، ثم نزلت «السورة » ، ثم أمر بالخروج إليهم .

وقد اختلف الناس (قديما وحديثا ) : في ثبوت وجود الجن ؛

فأنكر وجودهم : معظم الفلاسفة . واعترف به : جمع منهم ، وسموهم بالأرواح السفلية . وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية ، إلا أنهم أضعف .

وأما جمهور «أرباب الملل » ، وهم أتباع الرسل والشرائع : فقد اعترفوا بوجودهم ، لكن اختلفوا في ماهيتهم .

وقد نطق «الكتاب العزيز » ، والسنة المطهرة : بوجودهم . فلا اعتداد بمنكريهم .

[ ص: 815 ] وإذا جاء نهر الله : بطل نهر معقل . انتهى .

ومن جهلة الدهرية - في زماننا الحاضر هذا - : الفرقة المسماة «بالنيفرية » . وهي تنكر وجود الجن ، ووجود الملائكة ، بل وجود كل شيء غير محسوس . وهم كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا . أقماهم الله ، وبدد شملهم . فقد تجاوز ضرارهم بدين الإسلام وأهله : الحدود .

التالي السابق


الخدمات العلمية