السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
1099 [ ص: 188 ] (باب من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) .

وقال النووي: (باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها ) .

(حديث الباب ) .

وهو بصحيح مسلم النووي ص183 - 189 ج5 المطبعة المصرية.

1[وحدثنا شيبان بن فروخ. حدثنا سليمان (يعني: ابن المغيرة) حدثنا ثابت عن عبد الله بن رباح. عن أبي قتادة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم. وتأتون الماء - إن شاء الله - غدا".

فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد. قال أبو قتادة: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل وأنا إلى جنبه. قال: فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمال عن راحلته. فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته. قال: ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته. قال: فدعمته من غير أن أوقظه. حتى اعتدل على راحلته. قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة. هي أشد من الميلتين الأوليين. حتى كاد ينجفل. فأتيته فدعمته. فرفع رأسه فقال: "من هذا؟" قلت أبو قتادة. قال: "متى كان هذا مسيرك مني؟" قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة. قال: "حفظك الله بما حفظت به نبيه" ثم قال: "هل ترانا نخفى على الناس؟" ثم قال: "هل ترى من أحد؟قلت [ ص: 189 ] هذا راكب. ثم قلت: هذا راكب آخر. حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب. قال: فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطريق. فوضع رأسه. ثم قال: "احفظوا علينا صلاتنا" . فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره. قال: فقمنا فزعين. ثم قال: "اركبوا" فركبنا فسرنا. حتى إذا ارتفعت الشمس نزل. ثم دعا بميضأة كانت معي، فيها شيء من ماء. قال: فتوضأ منها وضوءا. قال: وبقي فيها شيء من ماء. ثم قال لأبي قتادة: "احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ" . ثم أذن بلال بالصلاة. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم. قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبنا معه. قال فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: "أما لكم في أسوة؟" ثم قال: "أما إنه ليس في النوم تفريط. إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى. فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها. فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" . ثم قال: "ما ترون الناس صنعوا؟ قال: ثم قال: "أصبح الناس فقدوا نبيهم فقال أبو بكر وعمر: رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدكم لم يكن ليخلفكم. وقال الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم. فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا" . قال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء. وهم يقولون: يا رسول الله! هلكنا عطشنا. فقال: "لا هلك عليكم" ثم قال: "أطلقوا لي غمري" قال: ودعا بالميضأة. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم. فلم يعد [ ص: 190 ] أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحسنوا الملأ كلكم سيروى". قال: ففعلوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم. حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم صب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "اشرب" فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله! قال: "إن ساقي القوم آخرهم شربا" قال: فشربت. وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأتى الناس الماء جامين رواء.

قال: فقال عبد الله بن رباح: إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع. إذ قال عمران بن حصين: انظر أيها الفتى! كيف تحدث؟ فإني أحد الركب تلك الليلة. قال: قلت: فأنت أعلم بالحديث. فقال ممن أنت؟ قلت: من الأنصار. قال: حدث فأنتم أعلم بحديثكم. قال: فحدثت القوم. فقال عمران: لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدا حفظه كما حفظته
. ] .


(الشرح) .

(عن أبي قتادة؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم" ) .

"فيه" أنه يستحب لأمير الجيش، إذا رأى مصلحة لقومه في إعلامهم بأمر، أن يجمعهم كلهم، ويشيع ذلك فيهم، ليبلغهم كلهم، ويتأهبوا له.

[ ص: 191 ] ولا يخص به بعضهم وكبارهم، لأنه ربما خفي على بعضهم، فيلحقه الضرر.

"وتأتون الماء إن شاء الله غدا".

"فيه" استحباب قول: "إن شاء الله" في الأمور المستقبلة، وهو موافق للأمر به في القرآن الكريم.

(فانطلق الناس، لا يلوي أحد على أحد ) ، أي: لا يعطف.

(قال أبو قتادة: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل ) . بالباء، وتشديد الراء. أي: انتصف.

(وأنا إلى جنبه. قال: فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح العين. "والنعاس" مقدمة النوم.

وهو ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ، تغطي على العين، ولا تصل إلى القلب. فإذا وصلت إلى القلب كان نوما.

ولا ينتقض الوضوء بالنعاس من المضطجع، وينتقض بنومه.

(فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته ) أي: أقمت ميله من النوم، وصرت تحته كالدعامة للبناء فوقها.

[ ص: 192 ] (من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته. قال: ثم سار حتى تهور الليل ) .

أي: ذهب أكثره. مأخوذ من "تهور البناء" وهو انهدامه. يقال: "تهور الليل" "وتوهر".

(مال عن راحلته. قال: فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته. قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة، هي أشد من الميلتين الأوليين، حتى كاد ينجفل ) أي: يسقط.

فأتيته، فدعمته، فرفع رأسه فقال: "من هذا"؟ قلت: أبو قتادة ) "فيه" أنه إذا قيل للمستأذن ونحوه: من هذا؟ يقول: "فلان"، باسمه. وأنه لا بأس أن يقول: "أبو فلان"، إذا كان مشهورا بكنيته.

(قال: "متى كان هذا مسيرك مني؟" قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة. قال: "حفظك الله بما حفظت به نبيه" ) .

أي: بسبب حفظك نبيه.

وفيه أنه يستحب لمن صنع إليه معروف أن يدعو لفاعله. وفيه حديث آخر صحيح مشهور.

ثم قال: "هل ترانا نخفى على الناس؟" ثم قال: "هل ترى من أحد؟" قلت: هذا راكب. ثم قلت: هذا راكب آخر. حتى اجتمعنا، فكنا سبعة ركب ) .

كصاحب، وصحب. ونظائره..

[ ص: 193 ] (قال: فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطريق، فوضع رأسه. ثم قال:

"احفظوا علينا صلاتنا" فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشمس في ظهره. قال: فقمنا فزعين. ثم قال: "اركبوا" فركبنا، فسرنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نزل. ثم دعا بميضأة ) .

بكسر الميم، هي: الإناء الذي يتوضأ به "كالركوة".

(كانت معي، فيها شيء من ماء قال: فتوضأ منها، وضوءا دون وضوء ) .

أي: وضوءا خفيفا، مع أنه أسبغ الأعضاء.

وحكى عياض عن بعض شيوخه: أن المراد: "توضأ، ولم يستنج بماء، بل استجمر بالأحجار.

قال النووي: وهذا غلط، والصواب ما سبق.

(قال: "وبقي فيها شيء من ماء. ثم قال لأبي قتادة: "احفظ علينا ميضأتك، فسيكون لها نبأ" ) .

هذا من معجزات النبوة "بأبي هو وأمي" رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(ثم أذن بلال بالصلاة. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "ركعتين" ثم صلى، "الغداة" ) .

"فيه" استحباب الأذان للصلاة الفائتة.

[ ص: 194 ] "وفيه" قضاء "السنة الراتبة، لأن الظاهر أن هاتين الركعتين اللتين قبل الغداة، هما "سنة الصبح".

"وفيه" إباحة تسمية الصبح: غداة.

(فصنع كما يصنع كل يوم ) .

فيه إشارة إلى أن صفة "قضاء الفائتة" كصفة أدائها. فيؤخذ منه: أن فائتة الصبح يقنت فيها.

وهذا لا خلاف فيه عند الشافعية. وقد يحتج به من يقول: يجهر في الصبح التي يقضيها بعد طلوع الشمس.

قال النووي: وأصحها أن يسر بها، ويحمل قوله: "كما كان يصنع" على الأفعال.

(قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركبنا معه. قال فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ) .

بفتح الياء وكسر الميم، وهو الكلام الخفي.

(ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: "أما لكم في أسوة؟" ثم قال: "أما إنه ليس في النوم تفريط" ) .

"فيه" دليل لما أجمع عليه العلماء: أن النائم ليس مكلف، وإنما يجب عليه قضاء الصلاة ونحوها، بأمر جديد.

[ ص: 195 ] قال النووي: هذا هو المذهب الصحيح المختار عند أصحاب الفقه والأصول.

ومنهم من قال: يجب القضاء بالخطاب السابق.

وهذا القائل يوافق على أنه في حال النوم غير مكلف.

"إنما التفريط على من لم يصل الصلاة، حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه، فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها".

أي: أنه إذا فاتته صلاة فقضاها، لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل، بل يبقى كما كان. فإذا كان الغد؛ صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد ويتحول.

قال النووي: في الحديث دليل على امتداد وقت كل صلاة من الخمس؛ حتى يدخل وقت الأخرى.

وهذا مستمر على عمومه في الصلوات، إلا الصبح، فإنها لا تمتد إلى الظهر.

بل يخرج وقتها بطلوع الشمس، لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح" .

وأما "المغرب، ففيها خلاف، والصحيح المختار: امتداد وقتها إلى دخول وقت العشاء، للأحاديث الصحيحة.

[ ص: 196 ] وحديث إمامة جبريل عليه السلام في اليومين: في "المغرب"، في وقت واحد، مجاب عنه.

قال: وحاصل المذهب: أنه إذا فاتته فريضة وجب قضاؤها.

وإن فاتت بعذر استحب قضاؤها على الفور، ويجوز التأخير على الصحيح.

وإذا قضى صلوات، استحب قضاؤهن مرتبا. فإن خالف ذلك صحت صلاته. سواء كانت الصلاة قليلة، أو كثيرة.

وإن فاتته سنة راتبة، يستحب قضاؤها، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". ولأحاديث أخر كثيرة في الصحيح.

كقضائه صلى الله عليه وسلم: "سنة" الظهر بعد العصر، حين شغله عنها "الوفد". وقضائه "سنته" في حديث الباب.

وأما السنن التي شرعت لعارض، كصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحوهما؛ فلا يشرع قضاؤها بلا خلاف.

قال: "وفيه" قضاء الفريضة الفائتة، سواء تركها بعذر، كنوم ونسيان، أم بغير عذر.

وإنما قيد في الحديث "بالنسيان"، يعني: حديث: "من نسي صلاة"، لخروجه على سبب. لأنه إذا وجب القضاء على المعذور، فغيره أولى بالوجوب.

[ ص: 197 ] وهو من باب "التنبيه" بالأدنى على الأعلى.

قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليصلها إذا ذكرها" فمحمول على الاستحباب فإنه يجوز تأخير الفائتة "بعذر" على الصحيح.

وشذ بعض أهل الظاهر؛ فقال: لا يجب قضاء الفائتة بغير عذر.

وزعم أنها أعظم من أن يخرج من وبال معصيتها بالقضاء.

وهذا خطأ من قائله، وجهالة، انتهى كلام النووي ملخصا.

وأقول: الأدلة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ترد إلا في السهو والنسيان والنوم. وقال صلى الله عليه وسلم فيها: "وقتها حين يذكرها، لا وقت لها إلا ذلك".

وهذا يفيد: أن ذلك وقتها، أداء، لا قضاء.

فتكون هذه الأحاديث مخصصة لما ورد من "توقيت الصلاة"، وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء.

فيقال: إلا الصلاة التي نام عنها المصلي، أو نسيها، أو سها عنها. فإن فعلها عند الذكر فهو وقت أدائها، ولو بعد خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة.

وأما "العمد" فلا تشمله هذه الأحاديث الواردة في النوم، والسهو، والنسيان، ولا يدخل تحتها.

ولا يصح قول من قال: إنه إذا ثبت القضاء مع المذكورات، ثبت مع "العمد" بفحوى الخطاب.

[ ص: 198 ] لأنا نقول: ليس تأدية الصلاة التي نام عنها، أو نسيها، أو سها عنها، من باب القضاء، بل من باب الأداء. فلا يتم القياس من هذه الحيثية.

ثم لا نسلم أن ذلك أولى، لأن التارك عمدا قد أثم بالترك بالإجماع؛ فإيجاب القضاء عليه، لا يرفع عنه هذا الإثم.

فإن قلت: قد زعم قوم كرام: كداود الظاهري، وابن حزم، وشيخ الإسلام "ابن تيمية"، ومن تابعهم، رحمهم الله تعالى أجمعين: أنه لا قضاء في العمد، وأنه لم يرد في ذلك دليل. فهل هذا صحيح؟ .

قلت: نعم. لم يرد في قضاء الصلاة المتروكة عمدا دليل يدل على وجوب قضائها على الخصوص.

ولكنه وقع في حديث "الخثعمية"، الثابت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "دين الله أحق أن يقضى".

والتارك للصلاة عمدا، قد تعلق به بسبب هذا الترك "دين الله"، وهو أحق بأن يقضيه هذا التارك.

وأما قول من قال: إن دليل القضاء، هو دليل الأداء، فليس ذلك إلا مجرد دعوى ادعاها بعض أهل الأصول.

وإذا تقرر لك هذا، عرفت أن إطلاق القول من النووي "رحمه الله تعالى" بالخطأ في حق بعض أهل الظاهر على زعمه "بالخطأ والجهالة" ليس كما ينبغي.

[ ص: 199 ] بل ظاهر الأحاديث الواردة في هذه المسألة مع أهل الظاهر، وهم فرقة من فرق الإسلام، متقية غاية التقوى، متبعة للكتاب العزيز، والسنة المطهرة، نهاية الاتباع.

بل هم أسوة للناس المخلصين في الدين، وقدوة حسنة لمن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها وهو من الصالحين.

بقي أنه إذا تيقن أنه فاتته إحدى الصلوات الخمس، والتبس عليه أيتها الفائتة؟ ولم يفده التحري، فلا تحصل له "البراءة" إلا بفعل الخمس الصلوات جميعها. يقول في كل واحدة: إن كانت علي.

وأما قضاء المؤكدة، فتقدم عن النووي ما تقدم فيه.

والحاصل: أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم : أنه فاتته الركعتان بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم : أنه أمر من فاته الوتر بالليل، أن يقضيه بالنهار. وثبت عنه فيمن فاته ورده بالليل، أن يقضيه بالنهار.

وهذا إذا لم يترك تلك النافلة المؤكدة، والسنة الراتبة، لعرض المرض أو نحوه.

وأما إذا تركها لذلك، فقد ورد أن الله تعالى يكتب له ثوابها.

ثم إنه لا يجب الترتيب بين المقضية والمؤداة، إلا بين المقضيات نفسها.

[ ص: 200 ] لأن الجميع قد تعلق بمن عليه القضاء. ولا دليل على خلاف هذا حتى يتعين المصير إليه.

وأما من ترك الصلاة لنوم، أو نسيان، أو سهو، فقد عرفناك أن فعلها في وقت الذكر، هو الأداء لا القضاء.

وظاهر الحديث قضاؤها على الفور، لا على التأخير، وهو الأصح. بل حكمه حكم تأخير الأداء عن وقته المضروب، وحكمه واضح معلوم، سبقت الإشارة إليه فيما تقدم من الأبواب. والله أعلم بالصواب.

(ثم قال: "ما ترون الناس صنعوا؟" قال: ثم قال: "أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر" رضي الله عنهما: "رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدكم. لم يكن ليخلفكم، وقال الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم. فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا" ) .

أي: أنه لما صلى بهم الصبح بعد ارتفاع الشمس، وقد سبقهم الناس، وانقطع النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الطائفة اليسيرة عنهم؛ قال: ما تظنون الناس يقولون فينا؟ فسكت القوم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما أبو بكر وعمر فيقولان للناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم وراءكم. ولا تطيب نفسه أن يخلفكم وراءه، ويتقدم بين أيديكم.

[ ص: 201 ] فينبغي لكم أن تنتظروه حتى يلحقكم.

وقال باقي الناس: إنه سبقكم فالحقوه.

فإن أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا. فإنهما على الصواب.

(قال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله! هلكنا، عطشنا، فقال: "لا هلك عليكم" ) .

بضم الهاء وهو "الهلاك". وهذا من المعجزات.

(ثم قال: "أطلقوا لي غمري" ) بضم الغين، وفتح الميم، هو القدح الصغير.

(قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب، وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها ) .

"ما" هنا بالمد والقصر، وكلاهما صحيح ضبطناه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الملأ، كلكم سيروى" ) .

"الملأ، بفتح الميم واللام، وآخره همزة: الخلق والعشرة.

[ ص: 202 ] يقال: ما أحسن ملأ فلان؟ أي: خلقه وعشرته. وملأ بني فلان! أي: عشرتهم وأخلاقهم.

(قال: ففعلوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب، وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم صب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "اشرب". فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله! قال: "إن ساقي القوم آخرهم شربا" ) .

"فيه" أن هذا الأدب من آداب شاربي الماء، واللبن، ونحوهما.

وفي معناه: ما يفرق على الجماعة من المأكول، كلحم، وفاكهة، ومشموم، وغير ذلك.

(قال: فشربت، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأتى الناس الماء جامين رواء ) .

أي: نشطاء، مستريحين.

(قال: فقال عبد الله بن رباح: إني لأحدث الناس هذا الحديث في مسجد الجامع ) هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته.

(إذ قال عمران بن حصين: انظر أيها الفتى. كيف تحدث؟ فإني أحد الركب تلك الليلة. قال: قلت: فأنت أعلم بالحديث. فقال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار. قال: حدث، فأنتم أعلم بحديثكم. قال: فحدثت القوم. فقال عمران: لقد شهدت تلك الليلة، وما شعرت أن أحدا حفظه كما حفظته ) . ضبطناه بضم التاء، وفتحها.

[ ص: 203 ] قال النووي: وكلاهما حسن.

وفي حديث أبي قتادة هذا، معجزات ظاهرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

إحداها: إخباره بأن الميضأة سيكون لها نبأ، وكان كذلك.

الثانية: تكثير الماء القليل.

الثالثة: قوله: "كلكم سيروى" وكان كما قال.

الرابعة: "قال أبو بكر وعمر كذا. وقال الناس: كذا".

الخامسة: "إنكم تسيرون عشيتكم، وليلتكم، وتأتون الماء"، وكان كما أخبر. ولم يكن أحد من القوم يعلم ذلك. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية