السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
753 [ ص: 389 ] (باب فضل السجود والترغيب في الإكثار منه )

وقال النووي : (باب فضل السجود والحث عليه ) .

(حديث الباب )

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 205 ج 4 المطبعة المصرية

[عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة. (أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله ) . فسكت. ثم سألته فسكت. ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: عليك بكثرة السجود لله. فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة. وحط عنك بها خطيئة" قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته. فقال لي مثل ما قال ثوبان ].


(الشرح)

وفي الحديث الآخر: (أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أو غير ذلك؟". قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" ) .

قال النووي : فيه الحث على كثرة السجود، والترغيب فيه.

وسبب الحث عليه ما سبق في الحديث الماضي:

[ ص: 390 ] (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) . وهو موافق لقول الله تعالى: واسجد واقترب ولأن السجود غاية التواضع، والعبودية لله تعالى.

وفيه: تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها (وهو: وجهه ) من التراب، الذي يداس ويمتهن. والله أعلم.

قال: والمراد به: "السجود" في الصلاة. وفيه: دليل لمن يقول: تكثير السجود أفضل من إطالة القيام. انتهى.

وأقول: حمل السجدة هنا، على السجود في الصلاة. يخالف ظاهر الحديث، ويأباه شأن السؤال، والجواب.

وقد تأول الحديث بهذا المعنى، جماعة من أهل العلم. وحملوه على ذلك. منهم: الحافظ بن حجر، وغيره. وليس على ما ينبغي. وإن كان إطلاق السجدة في بعض المواضع، على الصلاة يكون واقعا مع قرينة. وليس هنا ما يعين هذه القرينة. ويوجب هذا الحمل.

قال الشوكاني في "الفتح الرباني": إن السجود بمجرده، من غير انضمامه إلى صلاة ودخوله فيها؛ عبادة مستقلة. يأجر الله عبده عليها.

والنصوص على ذلك في الكتاب العزيز معروفة.

والحمل في بعضها على السجود الكائن في الصلاة، أو على نفس الصلاة، هو مجاز لا بد فيه من علاقة؛ وقرينة؛ ودليل.

[ ص: 391 ] ومن ذلك: السجودات للتلاوة. فإنه صلى الله عليه وسلم بينها بالسجود المنفرد. و غيرها مثلها تحمل على السجود المنفرد. كما في حديث ثوبان هذا.

وهذا لفظ مسلم ؛ وكل عربي لا يفهم من قوله: سجدة. إلا السجدة المنفردة.

وأما السجود الذي في الصلاة، فأجره داخل في أجر جملة الصلاة.

وثبت في الصحيح حديث: "أعني على نفسك بكثرة السجود".

وهذا لفظ مسلم .

فصدق هذا السجود على السجود المنفرد؛ هو المعنى الحقيقي. ومثل هذا حديث عائشة الثابت في الصحيح: (أنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته؛ فوقعت يدها على بطن قدميه ) ، وهو في المسجد، وهما منصوبتان: وهو يقول:

(اللهم! أعوذ برضاك من سخطك. وبمعافاتك من عقوبتك؛ وأعود بك منك. لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك ) . رواه مسلم.

وهكذا يصدق على السجود المنفرد، ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة يرفعه:

[ ص: 392 ] (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء ) .

وأخرج النسائي من حديث عائشة، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة، فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، سوى ركعتي الفجر. ويسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية ) .

وقد أخطأ صاحب "عدة حصن الحصين" في الحكم منه: بأن هذه السجدة موضوعة. وقد نبهت على ذلك في شرحي "للعدة".

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه": (عن أبي سعيد، أنه قال: ما وضع رجل جبهته لله ساجدا، فقال: "يا رب اغفر لي" ثلاثا، إلا رفع رأسه وقد غفر له ) .

وهذا وإن كان موقوفا عليه. فله حكم الرفع. لأن ذلك لا يقال من طريق الرأي.

وأخرجه الطبراني عن أبي مالك عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الهيثمي في (مجمع الزوائد ) : رواه الطبراني في "الكبير" من رواية محمد بن جابر؛ عن أبي مالك هذا.

قال: ولم أر من ترجمها.

وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح: (عن عبادة بن الصامت، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة، فاستكثروا من السجود )

[ ص: 393 ] وأخرجه أحمد، وابن ماجه: بإسناد جيد (عن أبي فاطمة؛ قال: قلت: يا رسول الله ! أخبرني بعمل أستقيم عليه، وأعمل. قال: "عليك بالسجود. فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة" ) . ولفظ أحمد: (أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا فاطمة ! إن أردت أن تلقاني فأكثر السجود" ) .

وأخرج الطبراني في "الأوسط" بإسناد رجاله ثقات، من حديث حذيفة:

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من حالة يكون العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدا؛ يعفر وجهه في التراب".

وأخرج أحمد، والبزار؛ بإسناد صحيح من حديث: (أبي ذر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة" ) .

ومعلوم أن المراد بهذه السجدات المذكورة في هذه الأحاديث، هي السجدات المنفردة؛ كما هو المعنى الحقيقي.

وصدقه مجازا على السجود الكائن في الصلاة لا يضرنا، ولا يدفع صدقه على السجود المنفرد.

والحاصل: أن السجود نوع من أنواع العبادة، مرغب فيه بهذه الأحاديث وغيرها؛ يتقرب به العبد، كما يتقرب بالصلاة: لورود الترغيب فيه، والوعد النبوي بالأجر الجزيل عليه.

[ ص: 394 ] وفعله صلى الله عليه وسلم لبعض أنواعه، لا يمنع من فعل غيره؛ كما هو شأن الترغيب العام بالقول.

ومثل هذا لا يخفى. فيسجد أي وقت شاء. على أي صفة أراد.

ومن أنكر عليه ذلك، فهو لا يدري بهذه الأحاديث التي ذكرناها؛ و أشرنا إلى غيرها.

أو يدري بها، ولكنه لا يفهم أن المشروعية ثبتت بدون ذلك.

ومن قال بأن المشروع من السجود، إنما هو بعض أنواعه. مثل سجود التلاوة والشكر، ونحو ذلك، فيقال له: يلزمه هذا في الصلاة؛ ويقال له: ليس له أن يتنفل إلا النفل الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم ؛ ولا يزيد عليه في عدد، ولا صفة؛ ولا يفعله في زمان غير الزمان الذي فعله صلى الله عليه وسلم فيه.

ولا يخفاك أن هذا القول، جهل عظيم. لأن الترغيبات في مطلق النفل من الصلاة، يدل على أن الاستكثار من صلاة النفل سنة ثابتة. وشريعة قائمة. ما لم يكن الوقت وقت كراهة.

فهكذا مجرد السجود. فقد ثبت الترغيب فيه؛ والأجر العظيم لفاعله، كما تقدم. ولاسيما وهو من أسباب القرب من الرب عز وجل.

كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".

ثم أمره بإكثار الدعاء، عند هذا القرب الكائن للساجد بسجوده.

فما أحق طالب الخير، وقارع باب الإجابة، أن ينحط عند أن يدعو ربه عز وجل ساجدا !.

[ ص: 395 ] فإنه يفتح له باب الرحمة، التي تجاب عندها الدعوات، وترفع بها الدرجات، وتكفر بها الخطيئات.

لأنه قد صار في مقام القرب من ربه عز وجل. بل في مقام أقرب القرب من الجناب العالي عز وجل. انتهى كلامه الشريف.

وقد ثبت أن هذا البحث، آخر بحث لشيخنا، وبركتنا: الإمام الرباني القاضي: محمد بن علي الشوكاني. رضي الله عنه، وأرضاه. وجعل الجنة منزله ونزله ومثواه.

وسبب ذلك؛ أنه اعتمد في آخر أيامه على كثرة السجود، والتطويل فيه، والاشتغال به، فسأله بعض كبار تلامذته عن ذلك؟ فحرر هذا البحث، وما أبلغه وأتقنه، وأحسنه، وأكثره فائدة ونفعا !

التالي السابق


الخدمات العلمية