السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
845 [ ص: 520 ] (باب حمل الصبيان في الصلاة )

ولفظ النووي : (باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، وأن ثيابهم محمولة على الطهارة، حتى يتحقق نجاستها. وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وكذا إذا فرق الأفعال ) .

(حديث الباب )

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 31- 32 ج5 المطبعة المصرية

[(عن أبي قتادة الأنصاري ) رضي الله عنه؛ (قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص - وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم - على عاتقه. فإذا ركع وضعها. وإذا رفع من السجود أعادها ) ]


(الشرح)

وللحديث طرق وألفاظ في بعضها: (فإذا قام حملها. وإذا سجد وضعها ) .

وفي رواية: (يصلي للناس وأمامة- بنت أبي العاص- على عنقه ) .

[ ص: 521 ] وفي رواية لمسلم وأبي داود: (بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص "بنت ابنته" على عنقه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه، وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه. قال: فكبر فكبرنا. قال: ، حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده ثم قام، أخذها فردها في مكانها، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة، حتى فرغ من صلاته ) .

قال النووي : فيه دليل لصحة صلاة من حمل آدميا، أو حيوانا طاهرا من طير، وشاة، وغيرهما.

وأن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة حتى تتحقق نجاستها.

وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة.

[ ص: 522 ] وأن الأفعال إذا تعددت، ولم تتوال، بل تفرقت لا تبطل الصلاة.

"وفيه" تواضع مع الصبيان وسائر الضعفة، ورحمتهم، وملاطفتهم.

قال: والحديث يدل على جواز حمل الصبي، والصبية، وغيرهما، من الحيوان الطاهر، في صلاة الفرض، وصلاة النفل.

ويجوز ذلك للإمام، والمأموم، والمنفرد. وهذا مذهب الشافعي. قال: وحمله المالكية على النافلة. وهذا التأويل فاسد؛ لأن قوله: (يؤم الناس ) صريح أو كالصريح، في أنه كان في الفريضة. وادعى بعضهم أنه منسوخ، أو أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أو كان للضرورة.

وكل هذه الدعاوى باطلة مردودة، لا دليل عليها ولا ضرورة إليها.

بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك. وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع. لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه من النجاسة معفو عنه، لكونه في معدته. وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة.

ودلائل الشرع متظاهرة على هذا. والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت.

وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا، بيانا للجواز، وتنبيها به على هذه القواعد التي ذكرتها.

[ ص: 523 ] وهذا يرد ما ادعاه الخطابي: أن هذا الفعل يشبه أن يكون كان بغير تعمد، فحملها في الصلاة، لكونها كانت تتعلق به صلى الله عليه وسلم، فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه.

قال: ولا يتوهم، أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى عمدا. لأنه عمل كثير، ويشغل القلب. وإذا كان الخميصة شغله فكيف لا يشغله هذا؟

قال النووي : هذا كلام الخطابي. وهو باطل، ودعوى مجردة. ومما يردها قوله في صحيح مسلم : (فإذا قام حملها ) وقوله: (فإذا رفع من السجود أعادها ) وقوله في رواية غير مسلم : (خرج علينا حاملا أمامة فصلى ) الحديث.

وأما قصة الخميصة، فلأنها تشغل القلب بلا فائدة. وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد. وبيان قواعد مما ذكرناه، وغيره.

فأحل ذلك الشغل لهذه الفوائد، بخلاف الخميصة.

فالصواب الذي لا معدل عنه: أن الحديث كان لبيان الجواز، والتنبيه على هذه الفوائد.

فهو جائز لنا، وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين. هذا كلام النووي رحمه الله تعالى.

[ ص: 523 ] وأقول: قال شيخنا وبركتنا رضي الله عنه وأرضاه في "السيل الجرار" بعد رواية حديث أبي داود المتقدم، مع حديث الباب:

وهذا الحديث الصحيح، إذا سمعه المقلد الذي قد تلقن أن الفعل الكثير من مفسدات الصلاة، وتلقن أن تحريك الإصبع مثلا حركات متوالية لاحق بالفعل الكثير، موجب لفساد الصلاة، خارت قواه واضطرب ذهنه.

فإن هذه الصبية، لا تقدر على أن تستمسك على ظهره صلى الله عليه وسلم، وعمرها ثلاث سنين، فصاعدا.

فأخذها من الأرض ووضعها على الظهر، وكذلك إنزالها ووضعها على الأرض، يحتاج إلى مزاولة وأفعال تحصل الكثرة لدى هذا المقلد بما هو أيسر من ذلك بكثير، قال: وفي الصحيحين وغيرهما: (أنه صلى الله عليه وسلم؛ صلى على المنبر، وكان إذا أراد السجود نزل عنه إلى الأرض فسجد ثم يعود، وفعل كذلك حتى فرغ من صلاته ) فإن كان ولا بد من تقدير الفعل الكثير المخالف لمشروعية السكون في الصلاة، فليكن ما زاد على ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين، فإنه فعل هذه الأفعال في صلاة الفريضة، والمسلمون يصلون خلفه، وهو القدوة والأسوة.

وإنما فعل ذلك لبيان جوازه، وأنه لا ينافي ما شرعه الله سبحانه في الصلاة.

ومن قال بخلاف هذا فقد أعظم الفرية، وقصر بجانب النبوة،- [ ص: 525 ] وأوقع نفسه في خطب شديد. والهداية بيد الله سبحانه. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وبهذا تعرف أن ما جعله المقلدون كثيرا بذاته، أو بانضمام غيره إليه، وإلحاق الملتبس بالكثير، وذكروا العفو عن الفعل اليسير، وإيجابه تارة وندبه أخرى، وكراهة التنزيه في حالة، وإباحته في الأخرى؛ لا مستند له إلا مجرد الرأي المحض.

فلا نطيل الكلام على نقله ورده، فإن بطلانه أوضح من كل واضح، وأبين من كل مبين.

ومن لطائف هذا المقام: أن الشوكاني (رحمه الله ) قد سئل عن حمل العمامة الساقطة في الصلاة، أهو جائز أم لا؟ فأجاب: إن حمل العمامة ليس بأثقل من حمل أمامة.

والحاصل: أنه قد خبط المفرعون في هذا المقام، خبطا طويلا. واضطربت آراء جماعة من المجتهدين العالمين بالأدلة، المؤثرين لما صح من الرواية.

والحق الحقيق بالقبول، أن يقال: إن الصلاة بعد انعقادها، والدخول فيها لا تفسد إلا بمفسد دل الشرع على أنه مفسد؛ كانتقاض الوضوء، أو مكالمة الناس عمدا، وترك ركن من أركانها الثابتة بالضرورة الشرعية عمدا.

فمن زعم أنه يفسدها إذا فعل المصلي كذا أو كذا، فهذه مجرد [ ص: 526 ] دعوى، إن ربطها المدعي بدليلها، نظرنا في الدليل، فإن أفاد فساد الصلاة بذلك الفعل أو الترك، فذاك.

وإن جاء بدليل يدل على وجوب ترك الفعل، كحديث "اسكنوا في الصلاة" فإنه حديث صحيح. فيقال له: هذا الأمر بالسكون، غاية ما فيه وجوب السكون، وترك ما لم يكن من الحركات الراجعة إلى ما لا يتم الإتيان بالصلاة إلا به.

فمن فعل ما ليس كذلك من الأفعال، كمن يحرك يده، أو رأسه، أو رجله لا لحاجة، فقد أخل بواجب عليه، ولزمه إثم من ترك واجبا. وأما أنها تفسد به الصلاة فلا.

فإن قلت: هل يمكن الإتيان بضابط يعرف به ما لا يفسد وما يفسدها من الأفعال؟ قلت: لا. بل الواجب علينا الوقوف في موقف المنع، حتى يأتي الدليل الدال على الفساد. ومما يصلح سندا لهذا المنع، ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي قتادة هذا الذي نحن فيه. فليعلم.

[ ص: 527 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية