السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
847 (باب في اتخاذ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام عليه في الصلاة)

وأورده النووي في: (باب جواز الخطوة، والخطوتين، في الصلاة، [ ص: 127 ] وأنه لا كراهة في ذلك إذا كان لحاجة، وجواز صلاة الإمام على موضع أرفع من المأمومين للحاجة، كتعليمهم الصلاة أو غير ذلك) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 33-35 جـ5 المطبعة المصرية

[عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه; أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد. قد تماروا في المنبر، من أي عود هو؟ فقال أما والله! إني لأعرف من أي عود هو. ومن عمله. ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه. قال فقلت له: يا أبا عباس! فحدثنا. قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة (قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ) : "انظري غلامك النجار. يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها". فعمل هذه الثلاث درجات. ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوضعت هذا الموضع. فهي من طرفاء الغابة.

ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه، فكبر وكبر الناس وراءه. وهو على المنبر. ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر. ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته. ثم أقبل على الناس فقال: "يا أيها الناس! إني إنما صنعت هذا لتأتموا بي. ولتعلموا صلاتي".
]


[ ص: 128 ] (الشرح)

(عن أبي حازم) رضي الله عنه; (أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد) رضي الله عنه (قد تماروا في المنبر، من أي عود هو؟) أي: اختلفوا، وتنازعوا.

قال أهل اللغة: "المنبر" مشتق من النبر. وهو الارتفاع.

(فقال أما والله! إني لأعرف من أي عود هو. ومن عمله. ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه. قال فقلت له: يا أبا عباس! فحدثنا. قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة (قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ) ; "انظري غلامك النجار. يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها" .

هكذا رواه سهيل بن سعد.

وفي رواية جابر في صحيح البخاري، وغيره: (أن المرأة قالت يا رسول الله! ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؟ فإن لي غلاما نجارا. قال : "إن شئت، فعملت المنبر" .

وهذه الرواية في ظاهرها مخالفة لرواية سهل.

والجمع بينهما: أن المرأة عرضت هذا أولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم يطلب تنجيز ذلك.

[ ص: 129 ] (فعمل هذه الثلاث درجات) هذا مما ينكره أهل العربية، والمعروف عندهم أن يقول: (ثلاث الدرجات) ، أو (الدرجات الثلاث) .

وهذا الحديث دليل لكونه لغة قليلة.

وفيه: تصريح بأن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات.

قال أهل العلم: كان المنبر الكريم ثلاث درجات: كما صرح به مسلم في روايته هذه.

وفيه: استحباب اتخاذ المنبر.

(ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعت هذا الموضع، فهي من طرفاء الغابة) .

وفي رواية البخاري: "من أثل الغابة".

"والأثل": الطرفان. "والغابة": موضع معروف من عوالي المدينة.

(ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه، فكبر وكبر الناس وراءه. وهو على المنبر) .

وفيه: استحباب كون المصلي، والخطيب، ونحوهما، على مكان مرتفع "كمنبر".

(ثم رفع) أي: رأسه من الركوع (فنزل) .

فيه: جواز الفعل القليل في الصلاة .

(القهقرى، حتى سجد في أصل المنبر) .

[ ص: 130 ] (القهقرى) : هو المشي إلى خلف. وإنما رجع القهقرى، لئلا يستدبر القبلة.

وفيه: أن الخطوتين لا تبطل بهما الصلاة، ولكن الأولى تركه إلا لحاجة.

فإن كان لحاجة فلا كراهة فيه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: أن الفعل الكثير، كالخطوات وغيرها، إذا تفرقت لا تبطل الصلاة، لأن النزول عن المنبر، والصعود، تكرر، وجملته كثيرة، ولكن أفراده المتفرقة، كل واحد منها قليل. قاله النووي .

وقد تقدم الكلام على الفعل اليسير، والجليل، والقليل، والكثير، في الكتاب فراجعه.

(ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته) .

وفيه: جواز صلاة الإمام، على موضع أعلى من موضع المأمومين .

قال النووي : ولكن يكره ارتفاع الإمام على المأموم، وارتفاع المأموم على الإمام، لغير حاجة.

فإن كان لحاجة: بأن أراد تعليمهم أفعال الصلاة، لم يكره بل يستحب، لهذا الحديث.

وكذا إن أراد المأموم إعلام المأمومين بصلاة الإمام، واحتاج إلى الارتفاع. انتهى.

[ ص: 131 ] (ثم أقبل على الناس فقال: "يا أيها الناس! إني إنما صنعت هذا، لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي".) .

بفتح العين واللام المشددة، أي: "تتعلموا".

قال النووي : فبين صلى الله عليه وآله وسلم، أن صعوده المنبر، وصلاته عليه، إنما كان للتعليم، ليرى جميعهم أفعاله صلى الله عليه وسلم.

بخلاف ما إذا كان على الأرض، فإنه لا يراه إلا بعضهم، ممن قرب منه. انتهى.

قال: وفيه: تعليم الإمام المأمومين أفعال الصلاة، وأنه لا يقدح ذلك في صلاته، وليس ذلك من باب التشكيك في العبادة، بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم. انتهى.

وأقول: قال شيخنا رضي الله عنه في "السيل الجرار" في هذه المسألة: إنه لا يضر الارتفاع قدر القامة، ولا فوقها.

لا في المسجد، ولا في غيره، من غير فرق بين الارتفاع، والانخفاض، والبعد، والحائل.

ومن زعم أن شيئا من ذلك، تفسد به الصلاة، فعليه الدليل.

ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة: "أنه أم الناس بالمدائن على [ ص: 132 ] دكان; فأخذ أبو مسعود البدري بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته، قال أبو مسعود: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى؟ قد ذكرت حين مددتني) .

أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. وفي رواية للحاكم: التصريح برفعه.

ورواه أبو داود من وجه آخر، وفيه: (أن الإمام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة) .

ولكن فيه مجهول، لأنه من رواية عدي بن ثابت الأنصاري: (قال: حدثني رجل: أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار، وقام على دكان يصلي، والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة، فأخذ على يديه، فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أم الرجل القوم، فلا يقم في مقام أرفع من مقامهم؟". [ أو نحو ذلك] قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي) .

هكذا ساقه أبو داود. وفي إسناده "الرجل المجهول" الذي ذكرناه، ورواه البيهقي أيضا.

ففي هذا الحديث، والحديث الأول، دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم.

[ ص: 133 ] ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه، لحديث صلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر، كما في الصحيحين وغيرهما.

ومن قال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك للتعليم، كما وقع في آخر الحديث، فلا يفيده ذلك، لأنه لا يجوز له في حال التعليم، إلا ما هو جائز في غيره.

ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة،- جوابا عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها، انتهى.

وبالجملة: مقصود المنذري من هذا الباب، وإيراد هذا الحديث فيه: جواز اتخاذ المنبر، والقيام عليه في الصلاة .

وذلك دليل على صحة ارتفاع الإمام عن المأموم .

وأن النزول منه، والصعود عليه في الصلاة، ليس من مبطلاتها، ولا من الفعل الكثير الذي يزعم الفقهاء بطلان الصلاة به، وهو الصحيح المختار عند أهل المعرفة بالحديث الشريف النبوي.

التالي السابق


الخدمات العلمية