السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
1151 (باب الجمع بين الصلاتين في الحضر)

وأورده النووي في الباب المتقدم.

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 216-217 جـ5 المطبعة المصرية

[ (عن ابن عباس) قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة، في غير خوف، ولا مطر. .

"في حديث وكيع" قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته.

[ ص: 244 ] "وفي حديث أبي معاوية" قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك ؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته) .]
(الشرح)

وفي الباب أحاديث، بألفاظ وطرق كلها صحيح. وقد قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به، إلا حديث ابن عباس، في الجمع بالمدينة من غير خوف، ولا مطر.

وحديث قتل شارب الخمر، في المرة الرابعة.

قال النووي : وهذا الذي قاله الترمذي، في حديث شارب الخمر، هو كما قاله. فهو حديث منسوخ، دل الإجماع على نسخه.

وأما حديث ابن عباس، فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال. وذكرها.

قال: ومنهم من تأوله، على صورة جمع. قال: وهذا أيضا ضعيف، أو باطل.

قال: ومنهم من قال: هو محمول على الجمع، بعذر المرض أو نحوه. مما هو في معناه من الأعذار؛ وهذا قول أحمد، والقاضي حسين. واختاره الخطابي، والمتولي، والروياني.

قال: وهو المختار، في تأويله لظاهر الحديث، ولفعل ابن عباس، وموافقة أبي هريرة، ولأن المشقة فيه أشد من المطر.

[ ص: 245 ] قال: وذهب جماعة من الأئمة، إلى جواز الجمع "في الحضر"، للحاجة، لمن لا يتخذه عادة؛ وهو قول ابن سيرين، وأشهب، من المالكية.

وحكاه الخطابي عن القفال، والشاشي الكبير "من الشافعية" عن أبي إسحاق المروزي، عن جماعة من أصحاب الحديث.

واختاره ابن المنذر . ويؤيده ظاهر قول ابن عباس : أراد أن لا يحرج أمته. فلم يعلله بمرض، ولا غيره. والله أعلم.

هذا كلام النووي مختصرا.

وأقول: "أرشدني الله وإياك": إن الجمع لغير عذر محرم، عند الجمهور.

بل حتى في "البحر" عن البعض: أنه إجماع. وإن لم يكن إجماعا، فهو مذهب الصحابة، والتابعين، وعلماء الأمة، ما عدا من عرفت. وإن الأدلة الناصة على وجوب التوقيت وتحتمه، قد بلغت مبلغا يصعب استيفاؤه: كتابا وسنة، قولا وفعلا. وقد أشرت إلى طرف منها في "دليل الطالب" وغيره. وذكرها شيخنا الشوكاني في: "الفتح الرباني":

منها قوله تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولا وآخرا". الحديث أخرجه الترمذي، ومالك، والنسائي . "وفيه": بيان أوقات الصلوات الخمس.

[ ص: 246 ] وحديث " أبي موسى " عند مسلم، والنسائي، وأبي داود . في بيانها؛ "وفيه": (فقال: " الوقت بين هذين ") .

وعلى الجملة: إن الأدلة مما ذكر، ومما لم يذكر مصرحة بتعيين أوقات الصلاة ابتداء، وانتهاء.

وقد ناطها المصطفى صلى الله عليه وسلم بعلامات حسية، لا تكاد تلتبس إلا على أكمة. فالقول بعدم التعيين أو به، مع زيادة على ما ثبت: قول لا دليل عليه.

وقد أخرج مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث ابن مسعود، قال: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة لغير ميقاتها، إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاءبالمزدلفة، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها ) . أي قبل الميقات المعتاد. لا قبل دخول الوقت.

وهذا تصريح منه، بأن الجمع "بين الصلاتين" فعل لهما في غير الميقات.

وأخرج الترمذي، والحاكم، عن ابن عباس، مرفوعا: ( من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ) .

وفيه: "حنش". وهو ضعيف. ضعفه أحمد، وغيره.

وإذا عرفت هذا، فاعلم: أن أعظم حجة تعلق بها من جوز الجمع مطلقا: حديث الباب عن ابن عباس .

وهو في الصحيح، والسنن، وغيرهما. وهو مع جميع طرقه، مشعر إشعارا تاما: بأن ذلك الجمع، الذي وقع في المدينة، كان جمعا صوريا. ولو حمل على الحقيقي، لتعارض روايتاه.

[ ص: 247 ] والجمع ما أمكن، يجب المصير إليه.

ويؤيده حديث " ابن عمر "، عند ابن جرير: ( قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يؤخر الظهر، ويعجل العصر، فيجمع بينهما. ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء، فيجمع بينهما ) .

وهذا هو الجمع الصوري. وابن عمر، أحد رواة حديث الجمع بالمدينة. وقد فسره بهذا.

ولا شك: أن هذه الروايات، معينة للجمع الصوري. فهو المراد بلفظ: "جمع". ولم يرد في جمع التأخير، ولا التقديم: ما يساوي هذه الروايات. بل لم يرو شيء من ذلك، في جمع المدينة، الذي نحن بصدده.

فوجب المصير إلى هذا.

وقد زعم بعضهم: أن الجمع الصوري، لم يرو عن الشارع، ولا عن أهل الشرع. وهذا الزعم مردود ما ذكرناه.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال للمستحاضة: "وإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين". ومثله في المغرب والعشاء. وهو ثابت في الأمهات، من حديث [ ص: 248 ] ابن عباس . وابن عمر . وهذا الجمع صوري بلا شك، ولا شبهة.

وقول الخطابي: إنه لا يصح حمله، على الجمع الصوري؛ لأنه يكون أعظم ضيقة، من الإتيان بكل صلاة في وقتها، فقد أجاب عنه العلامة الشوكاني، في فتاواه المسماة "بالفتح الرباني": بما لا يحتمل المقام لتفصيله. فليرجع إليه.

ومن مفاسد الجمع لغير عذر: أن ملازمة هذا الشعار، من أعظم الدواعي إلى التبديع.

ولقد رأينا جماعة، من الذين يدعون العلم، يصلون هذه الصلاة. فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

ولا عتب على العامة، فإنهم أتباع كل ناعق، وطروقة كل فحل.

فإنهم لما رأوا سادتهم الذين هم أرباب المناصب، وأهل الهيئات، يفعلون ذلك، مع انتمائهم إلى العلم، وتجملهم بجيد الثياب، لم يشكوا في أن الحق كائن في أيديهم، غير خارج عنهم.

وكيف يخرج عن قوم، قد لبسوا أحسن اللباس، وبرزوا في زي العلماء للناس ؟!

فمن كان ينتمي إلى نصيب من الحياء، ويرجع إلى حظ من الدين، فليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه.

فإن أبيت إلا اللجاج والجدال، فدع ذلك رعاية للمروءة، إن [ ص: 249 ] لم تدعه رعاية للدين. فإن الرجل يأنف عن الأفعال التي تحط منه، أو من قومه.

فليعض الجامعون "بين الصلاتين" على بنانهم. وليبكوا على تفريطهم في صلاتهم التي كانت على المؤمنين كتابا موقوتا.

وليعلموا دخولهم تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس التفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة "بأن تؤخر الصلاة، حتى يدخل وقت صلاة أخرى.

ودخولهم تحت قوله: "من جمع بين الصلاتين، فقد أتى بابا من أبواب الكبائر".

وليعلموا أيضا: أنهم من القوم الذين يميتون الصلاة، وقد ذمهم الشارع مما هو معروف..

والحاصل: أنهم مخالفون لهديه صلى الله عليه وسلم، الدائم المستمر. "منذ ثلاث وعشرين سنة". ومتمسكون مما هو خارج عن مطلوبهم، خروجا أوضح من شمس النهار. وعلى نفسها براقش تجني.

وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية.

التالي السابق


الخدمات العلمية