السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
1610 (باب كراهية البناء والتجصيص على القبور)

وهو في: (كتاب الجنائز) ، عند النووي .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 37 ج7 المطبعة المصرية

[عن جابر، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه .]
(الشرح)

(عن جابر ) رضي الله عنه: (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر) .

وفي الرواية الأخرى: "نهى عن تقصيص القبور".

[ ص: 381 ] والتقصيص: هو التجصيص. و"القصة"، بفتح القاف وتشديد الصاد: هي: الجص.

وفيه: كراهة القص والجص على القبر. والأصل في النهي: التحريم.

(وأن يقعد عليه) . فيه: تحريم القعود. والمراد: الجلوس عليه. وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء. وبه قال مالك في "الموطأ".

ويوضحه الرواية الأخرى: "لا تجلسوا على القبور".

وفي أخرى: "لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر".

قال النووي : وكذا الاستناد إليه، والاتكاء عليه.

قلت: وزعم بعضهم أن المراد بالجلوس هنا: التغوط عليه. كأنه صلى الله عليه وسلم كنى عنه بهذا.

وهذا تأويل لا حاجة إليه؛ إذ لا مانع من إرادة ظاهر الحديث، لا شرعا ولا عقلا. إلا أن النهي عن الجلوس والقعود عليه: يشمل ذاك، لكونه من أشنع أنواع القعود.

قال في "السيل الجرار": أما الاقتعاد، فلحديث أبي هريرة عند مسلم، وأحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة . يعني: حديث "جمرة ". وقد تقدم.

[ ص: 382 ] وأخرج أحمد، من حديث عمرو بن حزم :

(قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر، فقال: "لا تؤذ صاحب هذا القبر") .

قال ابن حجر : وإسناده صحيح.

وأما وطوء القبر، فلما أخرج مسلم وغيره، من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "لأن أطأ على جمرة، أحب إلي من أن أطأ على قبر". ولفظ الطبراني: "أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم".

وأما قبر الحربي فلا حرمة له؛ لما ثبت في كتب الحديث والسير: أن النبي جعل مسجدا على مقبرة، كانت للمشركين، بعد أن نبش قبورهم.

وهم وإن ماتوا قبل البعثة المحمدية، فقد كانوا مخاطبين بإجابة من تقدم من الأنبياء " عليهم الصلاة والسلام ".

(وأن يبنى عليه) .

قال النووي : فيه كراهة البناء عليه.

قال: أما البناء عليه، فإن كان في ملك الباني فمكروه. وإن كان في مقبرة "مسبلة"، فحرام.

[ ص: 383 ] نص عليه الشافعي، والأصحاب. قال في "الأم": ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى. ويؤيد الهدم قوله: "ولا قبرا مشرفا إلا سويته". انتهى.

وأقول: البناء على القبور حرام، لا مكروه. في أي مكان كان، ولأجل أي قبر كان.

وهذا بالأدلة الثابتة الصحيحة، في الصحيح وغيره، من طرق توجب العلم اليقين؛ "فمنها": الأمر بالتسوية كما تقدم.

"ومنها": النهي عن البناء كما هنا.

"ومنها": النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعل ذلك. وغير ذلك، مما هو مبين في كتب السنة.

وبالجملة؛ فما هذه أول شريعة صحيحة محكمة، وسنة قائمة صريحة، تركها الناس واستبدلوا بها غيرها.

وقد صارت هذه البدعة، وسيلة لضلال كثير من الناس، لاسيما العوام .

فإنهم إذا رأوا القبر وعليه الأبنية الرفيعة، والستور العالية، وانضم إلى ذلك: إيقاد السرج عليه، تسبب عن ذلك الاعتقاد في ذلك الميت.

ولا يزال الشيطان الرجيم، وإبليس اللعين، يرفعه من رتبة إلى رتبة، [ ص: 384 ] حتى يناديه مع الله، ويطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل، ولا يقدر عليه سواه؛ فيقع في الشرك. هذا أمر العوام.

وأما الخواص؛ فلهم عرس الموتى على قبورهم وطوافها، والمراقبة عندها، وانتظار وصول الفيض من أصحابها، والاستمداد بهم في الفرج بعد الشدة، وإيجاب النذور لهم، ووضع الأموال في المقابر، إلى غير ذلك من الكبائر، والإشراك، والبدع.

وكل ذلك ضلالة على ضلالة، وظلمة فوق ظلمة. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

وأما تخصيص قبور الفضلاء بهذه الداهية الدهماء، والمعصية الصماء، والفاقرة العظمى؛ فلا وجه له.

بل هم أحق: باتباع السنة في قبورهم، وتلك ما حرمته الشريعة الحقة على الناس.

قال الشوكاني (رحمه الله) في "وبل الغمام، حاشية شفاء الأوام": الأحاديث الصحيحة، وردت بالنهي عن رفع القبور؛ وقد ثبت حديث أبي الهياج في صحيح مسلم، وأخرجه أهل السنن. وأخرج أحمد، وأهل السنن:

"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر"، فما صدق عليه: أنه قبر مرفوع، أو مشرف، "لغة": فهو من منكرات الشريعة، التي يجب على [ ص: 385 ] المسلمين إنكارها وتسويتها، من غير فرق بين نبي وغير نبي، وصالح وطالح.

فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره صلى الله عليه وسلم، ولم يرفع قبورهم.

بل أمر عليا بتسوية المشرفة منها. ومات صلى الله عليه وسلم ولم يرفع قبره أصحابه. وكان من آخر قوله:

"لعن الله اليهود: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ونهى عن أن يتخذ قبره وثنا.

فما أحق الصلحاء والعلماء: أن يكون شعارهم، هو الشعار الذي أرشدهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها، تخصيص لهم بما لا يناسب العلم والفضل.

فإنهم لو تكلموا، لضجوا من اتخاذ الأبنية على قبورهم وزخرفتها.

لأنهم لا يرضون: بأن يكون لهم شعار، من مبتدعات الدين ومنهياته.

فإن رضوا بذلك في الحياة، كمن يوصي من بعده: أن يجعل على قبره بناء، أو يزخرفه، فهو غير فاضل.

والعالم يزجره علمه: عن أن يكون على قبره، ما هو مخالف لهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.

فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور وتشييدها!

[ ص: 386 ] وما أسرع ما خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند موته الشريف! فجعلوا قبره على هذه الصفة، التي هو عليها الآن.

وقد شد من عضد هذه البدعة، ما وقع من بعض الفقهاء: من تسويغها لأهل الفضل، حتى دونوها في كتب الهداية. والله المستعان.

قال: ومثل هذا: تسوية الكتب على القبور، بعد ورود صريح النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة.

كأنه لم يكف الناس ابتداعهم، في مطعمهم ومشربهم وملبوسهم، وسائر أمور دنياهم. فجعلوا على قبورهم شيئا من هذه البدع، لتنادي عليهم بما كانوا عليه حال الحياة.

وتعالوا في ذلك، حتى جعلوه مختصا بأهل العلم والفضل. اللهم غفرا.

انتهى كلامه الشريف. وما أجله، وأجمعه، وأنفعه، وأصحه، وأتقنه، وأرجحه! تلوح منه أنوار الحق والصواب. وعليه من ملابس التحقيق برود الإنصاف. لا شك فيه من وجه ولا ارتياب.

وإن شئت زيادة الاطلاع على هذه المسألة، فعليك "بشرح الصدور، في تحريم رفع القبور".

وإن لم تجده، فارجع إلى "هداية السائل"، فإن فيه شفاء لما في الصدور.

التالي السابق


الخدمات العلمية