صفحة جزء
[ ص: 12 ] فصل في ذكر جمع القرآن وكتابته

كان القرآن في مدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متفرقا في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صحف، وفي جريد، وفي خزف وغير ذلك، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام بالأمر بعده أحق الناس به أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، وقاتل الصحابة -رضوان الله عليهم- أهل الردة، وأصحاب مسيلمة، وقتل من الصحابة نحو الخمس مائة، أشير على أبي بكر بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يذهب بذهاب الصحابة، فتوقف في ذلك من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر في ذلك بشيء، ثم اجتمع رأيه ورأي الصحابة على ذلك، فأمر زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بتتبع القرآن وجمعه، فجمعه في صحف غير مرتب السور بعد تعب شديد منه.

وكانت الصحف عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفي، ثم عند عمر -رضي الله عنه- بعده، ثم عند حفصة -رضي الله عنها- في خلافة عثمان -رضي الله عنه-، وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن [ ص: 13 ] الصحابة; كمصحف ابن مسعود، وما كتب عن الصحابة بالشام، ومصحف أبي -رضي الله عنه-، وغير ذلك، وكان في ذلك اختلاف حسب السبعة الأحرف التي أنزل القرآن عليها.

ولما كان في حدود سنة ثلاثين من الهجرة النبوية الشريفة في خلافة عثمان -رضي الله عنه- حضر حذيفة بن اليمان فتح أرمينية وأذربيجان، فرأى الناس يختلفون في القرآن، ويقول أحدهم للآخر: قراءتي أصح من قراءتك، فأفزعه ذلك، وقدم على عثمان -رضي الله عنه-، وقال: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة; أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها، ثم نردها إليك، فأرسلتها إليه، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، فكتب منها عدة مصاحف; فوجه بمصحف إلى البصرة، ومصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى الشام، وترك مصحفا بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفا الذي يقال له: الإمام، ووجه بمصحف إلى مكة، وبمصحف إلى اليمن، وبمصحف إلى البحرين، وأمر بما سواها من المصاحف أن تحرق -بحاء مهملة-، أو تخرق -بخاء معجمة على معنى، ثم تدفن. [ ص: 14 ]

قال ابن عطية: ورواية الحاء غير منقوطة أحسن.

ولما جمعت المصاحف وعرضت، نظر فيها عثمان رضي الله عنه، فقال: قد أحسنتم وأجملتم، غير أنا نرى فيها لحنا، وسنقيمه بألسنتنا.

ووجه ذلك: أنه وجدهم كتبوا حروفا على خلاف ما اقتضاه اللفظ.

ومنها ما كان على الأصل، ولو تلفظ به لكان لحنا.

ومنها ما كان من طغيان القلم بحيث علم عثمان أنه لا يعرض في مثله ريب، من نحو ما كتبوا: (الربوا) بالواو في جميع القرآن، إلا ما في سورة الروم، من قوله: وما آتيتم من ربا [الروم: 39] وهو في الأصل من ربا يربو، وتظهر الواو في التثنية، فيقال: ربوان، وكأنه كان في الأصل ربو على وزن فعل، فكرهت الحركة على الواو، وطلب منها السكون، فإذا سكنت، التقت مع التنوين، وهو ساكن، فتسقط الواو; لسكونها وسكون التنوين.

فكأن الكاتب حمل ما هو الأصل، فخرج عما يطابقه اللفظ، وكذلك: (الصلوة والزكوة) كتبتا بالواو، وهي الأصل، والجمع يظهر ذلك، إذا قيل: صلوات وزكوات، كأنها كانت في الأصل صلوة وزكوة، ولكنه لما كرهت حركة الواو، وكانت قبلها فتحة، انقلبت ألفا، وكذلك (الحيوة) كتبت بالواو، وهي الأصل، ولكن اللفظ المعروف في أهل اللسان يخالف ذلك.

وأسقطت الألف في قوله تعالى: يخادعون الله [البقرة: 9] ، وحذفت [ ص: 15 ] في قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [البقرة: 193] ، وكتب الحرفان بغير ألف، ولو قرئ به لكان لحنا، ثم أثبتت الألف في قوله تعالى في سورة التوبة: ولأوضعوا خلالكم [التوبة: 47] بزيادة الألف بعد (لا) وكذلك كتب في بعض المصاحف في سورة النمل: ( أو لأ اذبحنه ) [النمل: 21] بزيادة ألف بعد (لا)، ولو قرئ به، لكان لحنا فاحشا.

وكتبوا في سورة الكهف: ( ولا تقولن لشايء ) [الكهف: 23] بألف بين الشين والياء، ولم يكتبوا ذلك في سائر القرآن.

وكتبوا في الأنعام: ( ولقد جاءك من نبإي المرسلين ) [الأنعام: 34] بياء بعد الألف المهموزة، وفي سائر القرآن بغير ياء.

وكتبوا في النحل: وإيتاء ذي القربى [النحل: 90] بياء بعد الألف، وفي الشورى: ( أو من ورآءي حجاب ) [الشورى: 51] بالياء، وفي الأحزاب: من وراء حجاب [الأحزاب: 53] بغير ياء، وكتبوا في النور: وإيتاء الزكاة [النور: 37] وفي يونس: ( من تلقاءي نفسي ) [يونس: 15] بياء بعد الألف; وذلك كله سبق القلم، أو لعل الكاتب قصد تقوية الهمزة المكسورة بالياء، وليس يحسن ذلك; لأنه يشتبه بالإضافة إلى النفس.

وكتبوا (سموت) بغير ألف بين الواو والتاء، إلا في موضع واحد في حم السجدة قوله: سبع سماوات في يومين [فصلت: 12]، فهذه ونحوها هو اللحن الذي قال عثمان -رضي الله عنه-: سنقيمه بألسنتنا.

ولا يظن به أنه رأى لحنا يخاف فيه الغلط، ثم تركه في المصحف. [ ص: 16 ]

[وأما الحروف التي كتب بعضها على خلاف بعض في المصحف] ، وهي في الأصل واحد:

فأول ذلك: بسم الله كتبت بحذف الألف التي قبل السين، وكتبت: اقرأ باسم [العلق: 1] ، و سبح اسم ربك الأعلى [الأعلى: 1] ، و بئس الاسم [الحجرات: 11].

و منه اسمه [آل عمران: 45] بالألف، والأصل في ذلك كله واحد، وهو: أن يكتب بالألف، وإنما حذفت من بسم الله فقط; لأنها ألف وصل ساقطة من اللفظ، كثر استعمال الناس إياها في صدور الكتب، وفواتح السور، وعند كل فعل يبتدأ فيه من مأكل أو مشرب أو ملبس أو غير ذلك، فأمنوا أن يجهل القارئ معناها، فحذفوها إيجازا، ولو كتبت: باسم الله، بالألف، لكان صوابا; لأنهم لم يحذفوا ألفها لعلة موجبة لحذفها، بل تخفيفا.

ومما كتب: في سورة يوسف: لدا الباب [يوسف: 25] بالألف، وفي الطول: لدى الحناجر [غافر: 18] بالياء، وفي مصحف الشام في سورة البقرة [221]: (ولا أمة مؤمنة) بزيادة ألف، وكتب أيه المؤمنون في [النور: 31] يا أيه الساحر [الزخرف: 49] ، و أيه الثقلان في [الرحمن: 31]; بغير ألف، وما سواها: يا أيها و يا أيتها بالألف.

ومن غرائب الهجاء ونوادره: ما كتب في الفرقان: وعتوا عتوا كبيرا [الفرقان: 21] بغير ألف، وفي سبأ: والذين سعوا [سبأ: 5] بغير ألف أيضا، وفي الحشر: والذين تبوءوا الدار [الحشر: 9] بواوين من غير ألف، وفي آخر [ ص: 17 ] عم: كنت ترابا [النبأ: 40] بغير ألف، وفي القلم: بأييكم المفتون [القلم: 6] بياءين، وفي آل عمران: أفإن مات [آل عمران: 144] بالياء، وفي الأنبياء [34]: أفإن مات بغير ياء، واختلف فيه، وفي يس [19]: أإن ذكرتم بغير ياء، وفي التوبة [38]: اثاقلتم ونحوه بالألف، وفي البقرة: فادارأتم [البقرة: 72] ليس بين الدال والراء ولا بين الراء والتاء ألف في جميع المصاحف.

وكتب في الحاقة لبيان الحركة: (كتابيه، حسابيه، ماليه، سلطانيه)، وفي القارعة: (ما هيه) بإثبات الهاء، واختلف في قوله تعالى: (لم يتسنه) و (فبهديهم اقتده) أن الهاء فيهما لبيان الحركة أو لغير ذلك.

وكتب في سورة النساء: فمال هؤلاء القوم [النساء: 78] ، وفي الكهف: مال هذا الكتاب [الكهف: 49] ، وفي الفرقان: مال هذا الرسول [الفرقان: 7] ، وفي المعارج: فمال الذين كفروا [المعارج: 36] كتبت هذه الأربعة الأحرف اللام مع (ما) مقطوعة مما بعدها; وسنذكر كل شيء من ذلك في محله عند تفسيره -إن شاء الله تعالى-.

واعلم أن هجاءات المصاحف واختلاف كتابتها أكثر من أن يؤتى عليها كلها، وفيما ذكرته كفاية، وإنما كتبت هذه الحروف بعضها على خلاف بعض، وهي في الأصل واحدة; لأن الكتابة بالوجهين فيها كانت جائزة عندهم، فكتبوا بعضها على وجه، وبعضها على وجه آخر، إرادة الجمع بين الوجهين الجائزين فيها في الكتاب عندهم، على أنهم كتبوا أكثرها على الأصل، فالواجب على القراء والعلماء والكتاب والأدباء: أن يعرفوا هذا الرسم في خط المصحف، ويتبعوه، ولا يجاوزوه; فإنه رسم زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وكان أمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكاتب وحيه، وعلم من هذا [ ص: 18 ] العلم بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعلمه غيره، فما كتب شيئا من ذلك، إلا لعلة لطيفة، وحكمة بليغة.

وفي خط المصحف عجائب وغرائب تحيرت فيها عقول العلماء، وعجزت عنها آراء الرجال البلغاء، والله الموفق.

وأجمعت الأمة المعصومة من الخطأ على ما تضمنته هذه المصاحف المنسوخة بأمر عثمان -رضي الله عنه-، وترك ما خالفها من زيادة ونقص، وإبدال كلمة بأخرى; مما كان مأذونا فيه توسعة عليهم، ولم يثبت عندهم ثبوتا مستفيضا أنه من القرآن.

وجردت هذه المصاحف جميعها من النقط والشكل; ليحتملها ما صح نقله، وثبتت تلاوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان الاعتماد على اللفظ لا على مجرد الخط، وكان من جملة الأحرف السبعة التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، فكتبت المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض القرآن على جبريل -عليه السلام- في كل عام مرة، فعرض عليه القرآن في العام الذي قبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين، ونسخ منه، وغير فيه في العرضة الأخيرة، واستقر منه ما كتب في المصاحف العثمانية.

قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: لو وليت في المصاحف ما ولي عثمان، لفعلت كما فعل. [ ص: 19 ]

وقرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم، وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال شيخ الإسلام ابن حجر -رحمه الله- في "شرح البخاري": واختلف هل رتب القرآن الصحابة بتوقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو باجتهاد منهم؟ قال القاضي أبو بكر: الصحيح الثاني، وأما ترتيب الآيات فتوقيفي بلا خلاف، وحكاه ابن عطية في "تفسيره"، والله أعلم.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية