صفحة جزء
ثم القاعدة التي أجمع عليها أهل الأصول من الفحول هي أن العبرة بعموم المباني ، لا بخصوص المعاني .

وهذه ترشدك إلى أن الاحتجاج من أهل التوحيد على أهل الشرك بتلك الآيات الناعية على المشركين صحيح واقع في محله ، لا شنار عليه ، ولا غبار فيه .

وإنما يعرج على مثل هذه الشبه الضعيفة من لا عقل له ، ولا سمع ، ولا يستحق الخطاب ، ولا الجواب .

قال تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن [الأنعام : 100] هذا نوع من جهالاتهم ، [ ص: 247 ] وضلالاتهم أنهم جعلوا الجن شركاءه سبحانه ، وعبدوهم كما عبدوه ، وعظموهم كما عظموه .

قال الحسن : أطاعوا الجن في عبادة الأوثان .

وقال الزجاج : فيما سولت لهم من شركهم .

وقيل : المراد بالجن هنا : الملائكة .

وقيل : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله تعالى وإبليس أخوان .

ويقرب من هذا قول المجوس : إن للعالم صانعين ، هما : الرب ، والشيطان .

وهكذا القائلون : إن كل خير من النور ، وكل شر من الظلمة ، وهم «المانوية » أتباع «ماني » المصور المتنبي .

وخلقهم وهذا كالدليل القاطع على أن المخلوق لا يكون شريكا لله ، وكل ما في الكون محدث مخلوق ، فامتنع أن يكون شريكا له في ملكه .

وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ؛ أي : شقوا له هذه؛ لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله ، والنصارى ادعوا أن المسيح ابن الله ، واليهود ادعوا أن عزيرا ابن الله ، وكثر ذلك منهم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم . [الأنعام : 101-102] : لا يخفى عليه من مخلوقاته خافية .

وقال تعالى : وأعرض عن المشركين [الأنعام : 106] هذا قبل نزول آية السيف : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة : 2] ، ولو شاء الله عدم إشراكهم ، ما أشركوا فيه ، إن الشرك بمشيئة الله سبحانه ، خلافا للمعتزلة .

والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به علماء الكلام والميزان معروف ، لا فائدة في إيراده هاهنا .

قال ابن عباس : يقول الله : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .

وقال تعالى : سيقول الذين أشركوا [الأنعام : 148] وقد وقع مقتضاه كما حكى [ ص: 248 ] عنهم سبحانه في سورة «النحل » : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا [النحل : 35] إلخ . لو شاء الله عدم شركهم ، وعدم تحريمهم : ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء .

ظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما فعلوه حق ، ولو لم يكن حقا ، لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك ، وعلى تحريم ما لم يحرمه الله ولا يأمرونهم بترك الشرك ، وبترك التحريم .

كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . وقد تمسك القدرية ، والمعتزلة بهذه الآية ، ولا دليل لهم في ذلك على مذهب الجبر ، والاعتزال ؛ لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته ، وإرادته ، ولا يلزم من ثبوت المشيئة دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام - .

قل هل عندكم من علم : أي : دليل صحيح يعد من العلم النافع ، وحجة وكتاب يوجب اليقين بأن الله راض بذلك، فتخرجوه لنا لننظر فيه ، ونتدبره ؟

والمقصود من هذا : تبكيتهم ؛ لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ، ويقوم به البرهان .

ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم ، فقال :

إن تتبعون إلا الظن الذي هو محل الخطأ ، ومكان الجهل .

وإن أنتم إلا تخرصون ؛ أي : تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص ، وتقولون على الله الباطل .

قل فلله الحجة البالغة [الأنعام : 149] على الناس ؛ أي : التي تنقطع عندها معاذيرهم ، وتبطل شبههم ، وظنونهم ، وتوهماتهم .

والمراد بها : الكتب المنزلة ، والرسل المرسلة ، وما جاءوا به من المعجزات .

قال الربيع بن أنس : لا حجة لأحد عصى الله ، أو أشرك به على الله.

بل له الحجة التامة على عباده ، فلو شاء لهداكم أجمعين ، ولكنه لم يشأ ذلك. [ ص: 249 ]

ومثله قوله تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا ، [الأنعام : 107] ، و ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [الأنعام : 107] ، ومثله كثير .

فالمنتفي في الخارج مشيئته هداية الكل ، وإلا فقد هدى بعضهم .

وعن ابن عباس : أنه قيل له : إن ناسا يقولون: ليس الشر بقدر ، فقال ابن عباس : بيننا وبين أهل القدر هذه الآية .

والعجز ، والكيس من القدر .

وقال علي بن زيد : انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية : قل فلله الحجة إلى قوله : أجمعين .

وقال تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا [الأنعام : 154] هذا نص ظاهر على تحريم الشرك .

وفي آخر هذه الآية : ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .

وقال تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم [الأنعام : 161-163] وهو ملة إبراهيم - عليه السلام - .

دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا مائلا إلى الحق .

وفي «القاموس » : الحنيف ؛ كأمير : الصحيح الميل إلى الإسلام ، الثابت عليه ، وكل من حج ، وكان على دين إبراهيم .

وما كان من المشركين في العبادة ، والخلق ، والقضاء والقدر ، وسائر أفعاله ، لا يشاركه فيها أحد من خلقه .

وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين أي : المنقادين من هذه الأمة .

قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء : فيه توحيد الربوبية .

قال تعالى : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا [الأعراف : 33] أي : وأن تجعلوا لله شريكا لم ينزل عليكم به حجة ، وتسووه به في العبادة . [ ص: 250 ]

والمراد : التهكم بالمشركين لأن الله لا ينزل برهانه بأن يكون غيره شريكا له .

وقال تعالى : فلما آتاهما صالحا [الأعراف : 190-191] ، أي : ما طلباه من الولد الصالح ، وأجاب دعاءهما جعلا له شركاء فيما آتاهما .

قال كثير من المفسرين : إنه جاء إبليس إلى حواء ، وقال لها : إن ولدت ولدا ، فسميه باسمي ، فقالت : وما اسمك ؟ قال: الحارث ، لو سمى لها نفسه ، لعرفته ، فسمته : عبد الحارث .

فكان هذا شركة في التسمية ، ولم يكن شركا في العبادة .

وقد روي هذا بطرق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ، ومن بعدهم .

ويدل له حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما ولدت حواء ، طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه : عبد الحارث ؛ فإنه يعيشه فسمته : عبد الحارث ، فعاش ، فكان ذلك من وحي الشيطان ، وأمره » أخرجه أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والروياني ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه .

وفيه دليل على أن الجاعل شركا فيما آتاهما هو حواء دون آدم عليه السلام .

وقوله تعالى : جعلا بصيغة التثنية لا ينافي ذلك ؛ لأنه قد يسند فعل الواحد إلى اثنين ، بل إلى جماعة ، وهو شائع في كلام العرب .

وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الطيب ، تصدى لبيانه صاحب تفسير «فتح البيان في مقاصد القرآن » ، فراجعه .

فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئا ، ولا يقدر على نفع لهم ، ولا دفع ضر عنهم، وهم يخلقون الضمير راجع إلى الشركاء ؛ أي : وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام ، والشياطين مخلوقون . [ ص: 251 ]

وجمعهم جمع العقلاء ؛ لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك.

ولا يستطيعون لهم [الأعراف : 192] أي : لمن جعلهم شركاء نصرا إن طلبوه منهم ، ولا أنفسهم ينصرون إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم :

ومن عجز عن نصر نفسه ، فهو عن نصر غيره أعجز .

التالي السابق


الخدمات العلمية