صفحة جزء
الصنف الرابع : قالوا : أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سبحانه ، واشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ، ووظيفته .

1-فأفضل العبادات في وقت الجهاد : الغزو في سبيل الله ، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل ، وصيام النهار ، بل من ترك صلاة الفرض كما في حالة عدم الأمن .

2-والأفضل في وقت حضور الضيف : القيام بحقه ، والاشتغال به .

3-والأفضل في أوقات السحر : الاشتغال بالصلاة ، والقرآن ، والذكر ، والدعاء .

4-والأفضل في وقت الأذان : ترك ما هو فيه من الأوراد ، والاشتغال بإجابة المؤذن .

5-والأفضل في أوقات الصلوات الخمس : الجد ، والجهد في إيقاعها على أكمل الوجوه ، والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى المسجد ، وأن يعدو .

6-والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج : المبادرة إلى مساعدته بالجاه ، والمال ، والبدن .

7-والأفضل في السفر : مساعدة المحتاج ، وإعانة الرفقة ، وإيثار ذلك على الأوراد ، والخلوة .

8 - والأفضل في وقت قراءة القرآن : جمعية القلب ، والهمة على تدبره والعزم على تنفيذ أوامره ، أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. [ ص: 320 ]

9-والأفضل في وقت الوقوف بعرفة : الاجتهاد في التفرع ، والدعاء ، والذكر .

10-والأفضل في أيام عشر ذي الحجة ، الإكثار من التعبد ، لا سيما التكبير ، والتهليل ، والتحميد ، وهو أفضل من الجهاد الغير المتعين .

11-والأفضل في العشر الأواخر من رمضان : لزوم المساجد ، والخلوة فيها مع الاعتكاف ، والإعراض عن مخالطة الناس ، والاشتغال بهم ، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم ، وإقراء القرآن عند كثير من العلماء .

12-والأفضل في وقت مرض الأخ المسلم : عيادته ، وحضور جنازته ، وتشييعه ، وتقديم ذلك على الخلوة ، والجمعية .

13-والأفضل في وقت نزول النوازل ، وأذى الناس له : الصبر مع الخلطة بهم .

والمؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم .

وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه .

وعزلتهم في الشر أفضل من خلطتهم فيه .

فإن علم أنه إذا خالطهم ذللوه ، وقللوه ، فخلطتهم خير من اعتزالهم .

وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق .

والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد .

فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلق به من العبادة ، وفارقه ، يرى نفسه كأنه قد نقص ، ونزل عن عادته ، فهو يعبد الله على وجه واحد .

وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه ، يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى .

إن رأيت العلماء ، رأيته معهم ، وكذلك في الذاكرين ، والمتصدقين ، وأصحاب الجمعية ، وعكوف القلب على الله. [ ص: 321 ]

فهذا هو غذاء الجامع السائر إلى الله تعالى في كل طريق .

واستحضر هنا حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه - ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بحضوره : «هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «هل منكم أحد أصبح اليوم صائما ؟ » قال أبو بكر : أنا ، قال: «هل منكم أحد عاد اليوم مريضا ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «هل منكم أحد اتبع اليوم جنازة ؟ » ، قال أبو بكر : أنا الحديث .

وهذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل ، قال: حدثنا نعيم بن سالم ، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه ، فقال : «من صام اليوم ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «من عاد اليوم ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «من شهد اليوم جنازة ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «وجبت لك ، وجبت لك ؛ يعني : الجنة » .

ونعيم بن سالم -وإن تكلم فيه - لكن تابعه سالم بن وردان ، وله أصل صحيح من حديث مالك عن محمد بن شهاب الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله ، نودي في الجنة : يا عبد الله ! هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة ، نودي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد ، نودي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة ، دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام ، دعي من باب الريان » .

فقال أبو بكر -رضي الله عنه - : يا رسول الله ! ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة ، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها ؟

قال : «نعم ، أرجو أن تكون منهم » .


هكذا رواه عن مالك موصولا مسندا يحيى بن يحيى ، ومعن بن عيسى ، وعبد الله بن المبارك -رحمهم الله تعالى - .

ورواه يحيى بن بكير ، وعبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن حميد مرسلا ، وليس هو عند القعنبي لا مرسلا ، ولا مسندا . [ ص: 322 ]

ومعنى قوله : «من أنفق زوجين » يعني : شيئين من نوع واحد ؛ نحو درهمين أو دينارين ، أو فرسين ، أو قميصين .

وكذلك من صلى ركعتين ، أو مشى في سبيل الله خطوتين ، أو صام يومين ، ونحو ذلك.

فإنما أراد -والله أعلم - أقل التكرار ، وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر ؛ لأن الاثنين أقل الجمع ، فهذا كالغيث أين وقع نفع ، صحب الله بلا خلق ، وصحب الخلق بلا نفس .

إذا كان مع الله ، عزل الخلق مع البنين ، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه ، عزل نفسه من الوسط ، وتخلى عنها .

فما أعذبه بين الناس ! وما أشد وحشته منهم ! وما أعظم أنسه بالله ، وفرحه به ، وطمأنينته ، وسكونه إليه ! !

واعلم أن للناس في منفعة العبادة ، وحكمتها ، ومقصودها طرائق :

وهم في ذلك أربعة أصناف :

التالي السابق


الخدمات العلمية