صفحة جزء
باب

في تفسير آيتي الشرك ، وعدم غفرانه

قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [النساء : 48] .

قال صاحب «الكشاف » : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله تعالى : لمن يشاء .

كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك .

على أن المراد بالأول : من لم يتب ، وبالثاني : من تاب .

ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ، ويبذل القنطار لمن شاء ، تريد : لا يبذل الدينار لمن يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله .

فقد افترى إثما عظيما ؛ أي : ارتكبه وهو مفتر ، مفتعل ما لا يصح كونه . انتهى .

ثم قال في موضع آخر في تفسير قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [النساء : 116] تكرير للتأكيد .

وقيل : كرر لقصة «طعمة » ، وروي أنه مات مشركا .

وقيل : جاء شيخ من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب ، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته ، وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه وليا ، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله، ولا مكابرة له ، ولا توهمت طرفة عين [ ص: 332 ] أني أعجز الله هربا ، وإني لنادم ، تائب ، مستغفر ، فما ترى حالي عند الله ؟ فنزلت .

وهذا الحديث ينصر قول من فسر لمن يشاء بالتائب من ذنبه . انتهى .

وقال الرازي في «مفاتيح الغيب » تحت تفسير الآية الأولى ما نصه :

اعلم أن الله تعالى لما هدد اليهود على الكفر ، وبين أن ذلك التهديد لا بد من وقوعه لا محالة ، بين أن مثل هذا التهديد من خواص الكفر .

فأما سائر الذنوب التي هي مغايرة للكفر ، فليست حالها كذلك، بل هو سبحانه قد يعفو عنها .

فلا جرم قال: إن الله لا يغفر إلخ .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ، ويدل عليه وجهان .

الأول : إن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور .

فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك ، لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية ، وبالإجماع هي غير مغفورة ، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك .

الثاني : أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود .

فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك ، وإلا لم يكن الأمر كذلك.

فإن قيل: قوله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله : والذين أشركوا [الحج : 17] عطف المشرك على اليهودي ، وذلك يقتضي المغايرة .

قلنا : المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي ، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي .

ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض .

إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : قال الشافعي -رضي الله تعالى عنه - : المسلم لا يقتل بالذمي . [ ص: 333 ]

وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه - : يقتل .

حجة الشافعي : أن الذمي مشرك ؛ لما ذكرناه ، والمشرك مباح الدم ؛ لقوله تعالى : فاقتلوا المشركين [التوبة : 5] ، فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه .

ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ، ولا يتوجه النهي عن تركه قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي ، فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله .

التالي السابق


الخدمات العلمية