صفحة جزء
فإن قيل: لا يخفى أنه لا بد في من يشاء من عائد على الموصول ، وهو في المثبت تقديره : من يشاء الله أن يغفر له ، والمنفي لا يتوجه إليه .

قلنا : مراده : التوجه إلى لفظ : من يشاء ، ثم الحمل على ما يناسب في المعنى ، وعبارته توهم أن العائد إلى الموصول ضمير الفاعل كما قيل، وليس كذلك.

ولقائل أن يقول -بعد تسليم ما مر - : لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما ذكر ؛ لأن الشرك أيضا يغفر للتائب ، وما دونه لا يغفر للمصر من غير فرق بينهما .

وسوق الآية ينادي على التفرقة ، ويأخذ بكظم المعتزلة ، حتى ذهب البعض منهم إلى أن «يغفر » عطف على المنفي ، والنفي منسحب عليهما ، فالآية للتسوية بينهما ، لا للتفرقة .

ومن تحريف كلامه تعالى قوله : إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة . . .إلخ . [ ص: 358 ]

يعني : أنه ترك المفعول الأول للمحافظة على عمومه ؛ فإن حذفه يفيد ذلك، فذكر أنه لا وجه للمحافظة عليه في أحدهما دون الآخر ، وأما كونه من التنازع ؛ كما قرره النحرير ، فغير متوجه مع اختلاف متعلق المشيئة فيهما ، وما ذكره لتوجيهه تعسف لا يصلح ما أفسده الدهر .

قوله : «ونقض لمذاهبهم » إلخ : رده صاحب «الكشاف » ، فقال : وما قاله بعض الجماعة من أن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ، ووجوب الصفح بعدها ، لم يصدر عن ثبت ؛ لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم .

وأيضا فإنه أشار بتمثيله بأن الأمير يبذل القناطير لمن يشاء ، ولا يبذل الدينار لمن يشاء ؛ بأن المشيئة بمعنى الاستحقاق ، وهي تقتضي الوجوب ، وتؤكده ؛ كما قاله المدقق ، فلا يرد ما ذكره رأسا .

ووجه إلزام الخوارج يفهم من التقابل ، فافهم . انتهى .

وقال في كتاب «التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزالات في تفسير الكتاب العزيز » ما نصه : إن الله لا يغفر أن يشرك به .

قال الزمخشري فيه ما مقتضاه : أن مقصوده أن ينظر ، ويقابل قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به لمن لم يتب من الشرك ، وأنه يغفر له إن تاب منه على القطع ، ثم أشار إلى أن ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لمن تاب أيضا على القطع ، فإن لم يتب ، لم يغفر له أصلا ؛ بناء منه على مقابلة آخر الكلام لأوله .

فخرج له من ذلك -على زعمه - أنه لا يغفر لمن مات مصرا من عصاة المؤمنين .

وهو اعتزال ملفق من النظر إلى مواضع الكلام ، وتنظيره ، ونزول نصه ، ووجه دليله على تحقيقه ، ولو سلمنا هذه المقابلة التي الإجماع على تركها لأجل نصه تعالى على أنه لا يغفر للمشرك ، وأن من عصى بما دون الشرك في المشيئة ، هذا نص الآية . [ ص: 359 ]

فترك هذا ، ومخالفته لأجل مقابلة أول الكلام لآخره من عمى البصيرة .

فإن النظير إنما يرجع إليه مع عدم النص ؛ لأنه كالقياس ، ولا قياس مع وجود النص .

هذا ما أجمعت عليه الصحابة -رضي الله عنهم - على ما ذكره إمام الحرمين في «البرهان » ، على تقدير تسليم هذه المقابلة كما ذكرناه ، وأن مقتضى ذلك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لمن تاب ، فمفهومه : أنه إن لم يتب ، فلا غفران له .

فالقول بهذا المفهوم -وهو مفهوم المخالفة - ضعيف ؛ لضعف دلالته ، ومع ضعفه ، فالمعتزلة لا تقول به ، فكيف تحتج بمثله بما لا يقول به لا هو ، ولا شيعته ؟

ثم القائلون بدلالته يشترطون في ذلك ألا يكون دليل آخر يدل على نقضه ، فإن كان ذلك، بطلت دلالته ، ويكون ذلك الخطاب لا مفهوم له ألبتة ، وهذا الموضع قد دلت الدلائل الشرعية القطعية ، والعقلية على جواز الغفران للمصرين ، ويرجى ذلك لهم ، وأجمعت الأمة في ذلك قبل خلق المعتزلة .

ثم إن عوقبوا ، فلا بد من خروجهم بالشفاعة المتواتر نقلها ، فلم يصح للزمخشري من تلفيقه لنصرة اعتزاله شيء .

وقوله -في أثناء كلامه - : إنه قد تبين ؛ يعني : ما قاله مغالطة ، بل تبين ضده ، وهو الحق ، ومتى تبين الاعتزال قط ؟

بل دلالته داحضة ، وحجته ساقطة بما بيناه من الدلائل القطعية العقلية ، والشرعية . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية