صفحة جزء
وقوله : ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما كقوله : إن الشرك لظلم عظيم .

وفي «الصحيحين » عن ابن مسعود : أنه قال: قلت : يا رسول الله ! أي الذنوب أعظم ؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك » ، وذكر تمام الحديث .

وقال ابن مردويه بسنده عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخبركم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله » ، ثم قال: ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [ ص: 368 ] ، و «عقوق الوالدين » ، ثم قرأ : أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير [لقمان : 14] . انتهى .

وأما الآية الثانية ، فقال : تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : إن الله لا يغفر الآية ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة .

وقد روى الترمذي عن علي : أنه قال ثم ذكر قوله المذكور .

وقوله : ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ؛ أي : فقد سلك عن طريق الحق ، وضل عن الهدى ، وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه ، وخسرها في الدنيا ، والآخرة ، وفاتته السعادة . انتهى .

وقال المولى الأعظم حسن بن محمد بن الحسين المشتهر بنظام النيسابوري رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل الجنة متقلبه ، ومثواه - في تفسيره «أنوار التنزيل » ما نصه :

إن الله لا يغفر : في الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ؛ لاتصالها بقصتهم ، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع ، ومن هنا قال الشافعي -رحمه الله - : المسلم لا يقتل بالذمي ؛ لأن الذمي مشرك ، والمشرك مباح الدم ، ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ، ولا يتوجه النهي عن قتله إلى ترك العمل بهذا الدليل في النهي ، فيبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله .

واستدلت الأشاعرة بالآية على غفران صاحب الكبيرة قبل التوبة ؛ لأن ما دون الشرك يشمله .

والمعتزلة خصصوا الثاني لمن تاب ، كما أن الأول مخصص بالإجماع لمن لم يتب .

قالوا : ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ، ويبذل القنطار لمن يشاء . [ ص: 369 ]

والمعنى : لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله .

والمشيئة تكون قيدا في الكبيرة ، فيستوجب الغفران .

وروى الواحدي في «البسيط » بإسناده عن ابن عمر ، قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة ، شهدنا أنه من أهل النار ، حتى نزلت الآية ، فأمسكنا عن الشهادة .

وقال ابن عباس بمحضر عمر -رضي الله عنه - : إني لأرجو كما لا ينفع من الشرك عمل ، كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب ، فسكت عمر .

وعن ابن عباس -رضي الله عنه - : لما قتل وحشي حمزة يوم «أحد » ، وكانوا قد وعدوه الإعتاق إن هو فعل ذلك، ثم ما وفوا بذلك، فعند ذلك ندم هو وأصحابه ، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ندمهم ، وأنه لا يمنعهم من الدخول في الإسلام إلا قوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر .

فقالوا : قد ارتكبنا كل ما في الآية ، فنزل قوله : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا .

فقالوا : هذا شرط شديد ، نخاف ألا نقوم به ، فنزل قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به .

فقالوا : نخاف ألا نكون من أهل مشيئته ، فنزل : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، فدخلوا عند ذلك في الإسلام
.

ومن يشرك بالله فقد افترى : اختلق ، وافتعل إثما عظيما ؛ لأنه ادعى ما لا يصح كونه . انتهى .

وأما الآية الثانية ، فقال : ثم إنه كرر في السورة قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ؛ لأنه لا أجل من وجود الصانع ، ووحدته . والمطلوب كلما كان أجل ، كان نقيضه أبعد . انتهى . [ ص: 370 ]

وقال القاضي ثناء الله الباني بتى -رحمه الله تعالى - في تفسيره «المظهري » ما نصه :

أخرج الطبراني ، وابن أبي حاتم عن أبي أيوب الأنصاري ، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال: «وما دينه ؟ » ، قال: يصلي ، ويوحد ، قال: «استوهبه منه دينه ، فإن أبى ، فابتعه منه » ، فطلب الرجل ذلك منه ، فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا على دينه ، قال: فنزلت : إن الله لا يغفر أن يشرك به تعالى في وجوب الوجود ، أو العبادة إذا مات وهو مشرك ، وأما إذا تاب عن الشرك ، وآمن ، فيغفر له ما قد سلف منه من الشرك وغيره إجماعا ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

يعني : كأنه لم يصدر عنه ذلك الذنب قط .

قال الله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال : 38] .

ويغفر ما دون ذلك يعني : ما سوى الشرك من الذنوب ، صغيرة كانت أو كبيرة ، صدرت عنه خطأ أو عمدا ، وإن مات مذنبا لم يتب لمن يشاء تعميم المغفرة لما دون الشرك .

وتقييدها بالمشيئة مبطل لمذهب المرجئة ؛ حيث قالوا بوجوب المغفرة لكل ذنب .

وقالوا : لا يضر ذنب مع الإيمان ، كما لا ينفع عمل مع الشرك .

ومذهب المعتزلة حيث قيدوا مغفرة الذنوب بالتوبة .

فإن الآية تدل على نفي التقييد بالتوبة ؛ لأن سوق الكلام للتفرقة بين حال المشرك ، والمذنب ، والتقييد بالمشيئة يبطل القول بوجوب المغفرة للتائب ، ووجوب التعذيب لغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية