صفحة جزء
ومن يشرك بالله فقد افترى معنى الافتراء : الإفساد .

والافتراء استعمل في الكذب ، والشرك ، والظلم ، كذا في «الصحاح » . [ ص: 372 ]

فالمعنى : فقد أفسد ، وكذب آثما منصوب على المصدرية ، يعني : ارتكب الكذب ، والفساد كذبا ، وفسادا عظيما ، وجاز أن يكون منصوبا على المفعولية .

والمعنى -على التجريد - : اختلق إثما عظيما يستحقر دونه الآثام .

وهذا وجه الفرق بينه وبين سائر الآثام .

عن جابر -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثنتان موجبتان » ، فقال رجل : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟ قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا ، دخل النار » رواه مسلم .

وعن أبي ذر -رضي الله عنه - قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض ، وهو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فقال : «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة » ، قلت : وإن زنى ، وإن سرق . . . » الحديث متفق عليه .

وفي الباب أحاديث كثيرة ، والله أعلم . انتهى .

وأما الآية الثانية ، فقال : قال البغوي : روي أن «طعمة بن أبيرق » نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له : الحجاج بن غلاط ، فنقب بيته ، فسقط عليه حجر ، فلم يستطع أن يدخله ، ولا أن يخرج حتى أصبح ، فأخذ ليقتل ، فقال بعضهم : دعوه ، فإنه قد لجأ إليكم ، فتركوه ، فأخرجوه من مكة ، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام ، فنزلوا منزلا ، فسرق بعض متاعهم ، فهرب ، فطلبوه ، فأخذوه ، ورموه بالحجارة حتى قتلوه ، فصار قبره تلك الحجارة .

وقيل : إنه ركب سفينة إلى جدة ، فسرق فيها كيسا فيه دنانير ، فأخذ فألقي في البحر .

وقيل : إنه نزل في حرة بن سليم ، فكان يعبد صنما لهم إلى أن مات . [ ص: 373 ]

فأنزل الله تعالى فيه : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك من الصغائر ، والكبائر بالتوبة ، وبلا توبة لمن يشاء مغفرته ومن يشرك بالله في وجوب الوجود ، وتأصله ، أو في العبادة شيئا فقد ضل عن سبيل الحق ضلالا بعيدا لا يمكن وصوله إلى النجاة ، والمغفرة .

وقال البغوي : قال الضحاك عن ابن عباس : إن هذه الآية السابقة نزلت في شيخ من الأعراب . . . إلى آخر القصة . وكذا أخرج الثعلبي عنه ، والله أعلم . انتهى .

قال بعض أهل العلم في تفسير آية النساء المذكورة : نسيان الله إنما يكون بألا يميز بين الحلال والحرام ، أو يسرق ، أو يزني ، أو يترك الصلاة والصيام ، ويضيع حقوق الأزواج ، والأولاد ، وسائر الأنام ، ويسيء الأدب مع الأبوين .

ولكن من وقع في شرك الشرك ، فهو أنسى له ؛ لأنه عصى عصيانا ، وأتى إثما لا يغفره الله أبدا ، وسائر المعاصي لعل الله يغفرها ، ويعفو عنها رحمة منه ، ولطفا ، وكرما .

وهذه الآية قد دلت على أن الشرك لا يغفر ، ولا بد له من العقاب الذي عليه ، فإن كان الشرك أعظم درجة مما يصير به صاحبه كافرا ، فجزاؤه جهنم يخلد فيها مهانا إلى أبد الآباد ، ولا ينعم فيها دهر الداهر ، وإن كان أصغر درجة يلقى صاحبه عقابا عين له .

وسائر الذنوب ، وباقي الآثام في مشيئة الله تعالى ؛ إن شاء عذب عليها ، وإن شاء غفرها ، ومفهوم الآية : أن الشرك من أكبر الكبائر .

مثال ذلك: أن رعايا الملك تقصيرهم في طاعته ، وإتيانهم بمعصيته ؛ كالسرقة ، وقطع الطريق ، والنوم حين الحراسة مثلا ، وعدم الحضور في المجلس ، والفرار عن معركة الحرب ، والضرب ، وعدم تأدية الخراج ، ومحاصل الأرض ، والزكاة إليه ، ونحوها ، لها عقوبات معينة عند الملك ، ولكنه إن شاء أخذ العاصي على ذلك، وإن شاء عفا عنه .

وهنا قسم آخر لعصيانهم يدل على بغي العاصي على الملك ؛ مثل أن يجعل [ ص: 374 ] أحدا من دونه أميرا ، أو وزيرا ، أو زعيم محلة ، أو مقنن قرية ، أو يقيم كناسا ، أو دباغا ، أو حذاء ، أو زياتا ، أو واحدا من الخدم والحشم مقام الملك ، ويهيئ له تاجا وسريرا ، ويخاطبه بالظل السبحاني ، ويسلم عليه تسليم الرعوي على السلطان ، أو يقرر له يوما للفرح ، وعيدا للسرور ، وموسما للنذور ، أو ينذر له نذر الرعايا للملوك وولاة الأمر .

فهذا الذنب من هذا الإنسان أكبر من جميع ذنوبه ، وأعظم من كل معاصيه .

وفي هذا الموضع لا بد للملك من أن يجزيه على ذلك ما عينه من الجزاء على هذا الذنب ، ولا يغمض البصر عنه ، فإن أغمض ، ولم يعاقب على هذا ، أو غفل عن مثل هذه الجريمة ، فلا ريب أن في سلطاته ثلمة ، وفي شأنه نقصا ، ومثل هذا الملك عند أهل العقل وأولي النهى ذاهب الغيرة ، فاقد الحياء .

إذا تقرر هذا ، فاعرف أن حال ملوك الدنيا إذا كان كذلك، فالله سبحانه أعلى وأكبر مما هنالك ؛ لأنه ملك الملوك ، ومالك الملك ، ولا شخص أغير منه ، ولا أحد أشد حياء منه ، وهو أقدر على كل شيء من كل أحد .

فكيف يستقيم أنه يغفل عن ذنوب المشركين به ، ولا يعاقبهم على ذنب الشرك الذي هو البغي عليه بمثل ما تقدم ؟ وقد قال سبحانه : وما الله بغافل عما يعملون [البقرة : 144] ، و قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق : 12] .

وعلى هذا : فهذه الآية نص في محل النزاع ، ودليل قطعي على عدم العفو ، ونفي غفران الشرك ، فكل شيء -قولا كان ، أو عملا - إذا ثبت أنه شرك ، سواء في ذلك الجلي منه ، والخفي ، وقد نص الكتاب أو السنة عليه بالشرك ، وقضى به أحدهما عليه ، فإنه لا يغفر أبدا ، بلا شك فيه ، ولا شبهة .

اللهم إلا أن يتوب قائله وفاعله عنه توبة صحيحة ، وينقلع عن الاعتقاد فيه ، والعمل به ظاهرا وباطنا .

اللهم ارحم المؤمنين ، وقهم عن آفات المشركين . [ ص: 375 ]

قال صاحب «الفتح المجيد » : تبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب ، وأكبر المعاصي والعيوب ؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه ، وأما ما دونه من الذنوب ، فهو داخل تحت مشيئة الله ؛ إن شاء غفر لمن لقيه به ، وإن شاء عذبه .

وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله ؛ لأنه أقبح القبيح ، وأظلم الظلم ، وتنقص لرب العالمين ، وصرف خالص حقه لغيره ، وعدل غيره به ، كما قال تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [الأنعام : 1] .

ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر ، مناف له من كل وجه .

وذلك غاية المعاندة لرب العالمين ، والاستكبار عن طاعته ، والذل له ، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه ، خرب ، وقامت القيامة ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله » رواه مسلم .

ولأن الشرك تشبيه المخلوق بالخالق -تعالى وتقدس - في خصائص الإلهية ؛ من ملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، وأنواع العبادة كلها بالله تعالى وحده ، فمن علق ذلك بمخلوق ، فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا شبيها بمن له الخلق كله ، والأمر كله ، وبيده الخير كله .

فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ، ومرجعها إليه ، فما شاء كان ، وما لم [يشأ لم] يكن ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، إذا فتح للناس رحمة ، فلا ممسك لها ، وما يمسك ، فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم ، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات .

التالي السابق


الخدمات العلمية