صفحة جزء
ومن الأدلة الدالة على رد الإشراك في العلم ، ما روي عن الربيع بنت معوذ بن عفراء ، قالت : جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بني علي ، فجلس على فراشي كمجلسك مني ، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ، ويندبن من قتل من آبائي يوم «بدر » . إذ قالت إحداهن :

وفينا نبي يعلم ما في غد

. فقال : «دعي هذه» ، وقولي بالذي كنت تقولين »
رواه البخاري كذا في باب : إعلان النكاح من «المشكاة » .

قال علي القاري في «المرقاة » إنما منع ؛ لقولها : وفينا نبي . . . إلخ ؛ لكراهة نسبة علم الغيب إليه ؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله . وإنما يعلم الرسل من الغيب ما أخبروا معجزة لهم .

قال بعض العلماء : إن الربيع كانت امرأة من الأنصار ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم في عرسها ، وجلس عندها ، وكانت للأنصار جوار أخذن في الغناء : فقلن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: إنه يعلم الأمر المستقبل ، فمنعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقلن هذا ، وأمرهن أن يقلن القول السابق .

فدل هذا على أن لا ينبغي أن يعتقد في أحد من الأنبياء والأولياء ، والأئمة والشهداء ، وغيرهم ، أنهم يعلمون الغيب ، ويدركون ما هو كائن بعد غد . [ ص: 436 ]

بل لا يحسن هذه العقيدة في حقه صلى الله عليه وسلم والذي هو سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، فضلا عن غيره ، ولا يحسن أن يمدحه بمثل ذلك.

وأما هؤلاء الشعراء الذين يبالغون في مدائح الأنبياء والرسل ، وأهل الكرامة والشيوخ ، والأساتذة ، والملوك ، ويأتون بإطراء فيهم ، ويتجاوزون الحدود ، فيصفونهم بأوصاف لا تليق إلا لله ، ويرون أن المبالغة والإغراق يجوز في الشعر .

فهذا من أبطل الباطلات ، وأسوأ المقالات ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز مثل هذا المدح في شعر الجويريات الأنصارية له .

فأي عاقل يرضى بأن يسمع مثل هذا النظم ، أو يكتبه في بياضه وديوانه ، أو ينشده في مجالسه ويتواجد عليه ؟ .

وأخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : من أخبرك أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يعلم الخمس التي قال الله تعالى : إن الله عنده علم الساعة ، فقد أعظم الفرية .

والمراد بهذه الخمس هي الآيات التي في آخر سورة لقمان ، وقد تقدم تفسيرها .

قال بعض العلماء : المعنى : أن كل شيء من الأمور المغيبة داخل في هذه الخمس .

فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم هذه الخمس التي شملت كل أمر غيبي ، فقد أتى بالفرية العظمى .

فكيف بمن يعتقد هذا في حق إمام ، أو كريم ، ويقول : إن الرسول إنما أبى عنه أدبا بالشريعة ؟ .

فإن القائل بذلك أكذب القائلين ؛ فإنه لا يعلم الغيب -كائنا ما كان ، وفي أي شأن - إلا الله رب العالمين .

وعن أم العلاء الأنصارية ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أدري ، والله [ ص: 437 ] لا أدري ، وأنا رسول الله ، ما يفعل بي ولا بكم » رواه البخاري . كذا في باب : البكاء والخوف من «المشكاة » .

وقال تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [الأحقاف : 9] .

نقل علي القاري في «المرقاة » عن الطيبي وجوها في معنى هذا الحديث .

ثم قال: والحاصل أنه يريد نفي علم الغيب عن نفسه ، وأنه ليس بمطلع عليه ، وأنه غير واقف ولا مطلع على المقدر له ولغيره ، والمكنون من أمره وأمر غيره .

لا أنه متردد في أمره ، غير متيقن بنجاته ؛ لما صح من الأحاديث الدالة على خلاف ذلك. انتهى .

قال بعض أهل العلم : إن معاملة الله بعباده في الدنيا ، وفي القبر ، وفي الآخرة شيء لا يعلم به أحد من الناس ، لا النبي ، ولا الولي ، لا بالنسبة إلى نفسه ، ولا بالنسبة إلى غيره .

ولو سلم أن الله أخبر بعض المقبولين بشيء على طريقة الوحي والإلهام ، وأعلمه أن عاقبة فلان بخير أو بسوء ، فهذا أمر مجمل .

والعلم بالزيادة عليه ، ودرك تفصيله خارج عن دائرة قدرتهم .

قال في «فتح البيان » في تفسير الآية المذكورة : أي : وما أدري ما يفعل بي : فيما يستقبل من الزمان ، هل أبقى في مكة ، أو أخرج منها ؟ وهل أموت ، أو أقتل كما فعل بالأنبياء قبلي ؟

وما أدري ما يفعل بكم ، يعني : هل تعجل لكم العقوبة ؛ كالمكذبين قبلكم ، أم تمهلون ؟ وهذا إنما هو في الدنيا .

وأما في الآخرة ، فقد علم أنه وأمته في الجنة ، وأن الكافرين في النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية