صفحة جزء
[ ص: 5 ] باب في رد الإشراك في التصرف

قال الله تعالى: قل من بيده ملكوت كل شيء [المؤمنون: 88] الملكوت: الملك، وزيادة التاء للمبالغة، نحو جبروت، ورحموت، ورهبوت، ورغبوت.

وقال مجاهد: يعني: خزائن كل شيء.

وهو يجير أي: يغيث غيره إذا شاء، ويمنعه.

ولا يجار عليه أي: لا يمنع أحد أحدا من عذاب الله، ولا يقدر على نصره وإغاثته. يقال: أجرت فلانا: إذا استغاث بك فحميته، وأجرت عليه، إذا حميت عنه. والمعنى: يحمي ولا يحمى عليه، إن كنتم تعلمون فأجيبوا سيقولون لله قل فأنى تسحرون [المؤمنون: 89] أي: تصرفون عن الحق وتخدعون.

والمعنى: كيف يخيل إليكم الحق باطلا، والصحيح فاسدا؟ والخادع لهم هو الشيطان، أو الهوى، أو كلاهما.

قال بعض العلماء: يعني: أن كل من سألته: من الذي شأنه أن يكون كل شيء في قدرته وقبضته، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا يقدر أحد على أن يقبض على يده ويمسكها، أو يلقي يده في حماه، ولا يجد مذنبه ملجأ يلجأ إليه، ولا تنفع حماية أحد في مقابلته؟

فسيجيب كل مسؤول عن هذا: إن ذلك هو شأن الله وحده لا شريك له.

[ ص: 6 ] وإذا تقرر هذا، عرفت أن طلب الحاجة من غير الله خبط محض، وخلل في العقل صرف، وهوى متبع.

وهذه الآية دلت على أن كفار زمنه -صلى الله عليه وسلم- كانوا قائلين: لا ند لله تعالى في هذا الأمر والتصرف، ولا يستطيع أحد أن يقابله.

وإنما كانوا يرون الأصنام والأوثان وكلاءهم عند الله، فيعبدونها، فصاروا بذلك كفارا مشركين.

فمن أثبت لمخلوق تصرفا في العالم، وعبده وكيلا له عنده سبحانه، فقد ثبت بهذا الشرك عليه، وإن لم يسوه بالله، ولا يثبت له قدرة في مقابلته.

والوكيل: هو من يقضي حاجة أحد من تلقائه، من دون إدارة الموكل المالك، فلا تمشي تلك الوكالة في حضرة الله أبدا.

ومن ثم أطلق سبحانه لفظ «الوكيل» على نفسه المقدسة في مواضع من القرآن؛ لأن شأن الله -تبارك وتقدس- أجل وأرفع من أن يجار عليه.

وقال تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا [الجن: 21] أي: لا أقدر أن أدفع عنكم غيا، ولا أسوق إليكم خيرا؛ لأن الضار والنافع هو الله سبحانه.

وقيل: الضر: الكفر، والرشد: الهدى. والأول أولى؛ لوقوع النكرتين في سياق النفي، فهما يعمان كل ضرر ونفع ورشد في الدنيا والدين.

قل إني لن يجيرني من الله أحد [الجن: 22] أي: لا يدفع عني أحد عذابه إن أنزله بي. كقوله عن صالح عليه السلام -: فمن ينصرني من الله إن عصيته [هود: 63]. وهذا بيان لعجزه عن شؤون نفسه، بعد بيان عجزه عن شؤون غيره.

ولن أجد من دونه ملتحدا [الجن: 22] أي: ملجأ، ومعدلا، وحرزا ألجأ إليه وأحترز به.

و«الملتحد» معناه في اللغة: الممال؛ أي: موضعا أميل إليه، وهو الملجأ.

[ ص: 7 ] قال قتادة: مولى. وقال السدي: حرزا. وقال الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب، وقيل: مذهبا ومسلكا، والمعنى متقارب.

قال بعض أهل العلم: إن الله أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس، ويبلغهم: إني لا أملك لكم شيئا؛ من نفع، أو نقصان، ولا تغتروا بأن آمنتم بي، وصرتم في أمتي، فتجاوزوا الحد على أن كفتكم ثقيلة، ووكيلكم قوي بطل، وشفيعكم محبوب لله، فنفعل ما نشاء، ينجينا هو من عذاب الله. فإن هذا الخيال مختل؛ لأني أخاف على نفسي، ولا أجد من دون الله ملجأ ألجأ إليه، فكيف أنجي غيري؟

ومفهوم الآية الشريفة أن نسيان الناس لله؛ اغترارا بالكرام والشهداء والمشايخ، واعتمادا على حمايتهم عند الله، وهم تاركون عظمة أحكامه، نابذون لأوامره ونواهيه، ضلالة محضة، وغواية صرفة. فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي شيخ الشيوخ أجمعين. وكان يخاف الله ليلا ونهارا، ولا يجد غير رحمته سبحانه منجى. فما ظنك بغيره؟ وأنى له ملتحد من دونه عند مخالفة حكمه المحكم، وقضائه المبرم؟

وقال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا [النحل: 73]. يعني: أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم زرقا؛ أي: رزقا كائنا منهما. وفي هذا إنكار منه سبحانه عليهم؛ حيث اختاروا عبادة ما لا ينفع ولا يضر، ولا يستطيعون الفائدة في نفي الاستطاعة عنهم.

إن من لا يملك شيئا قد يكون موصوفا باستطاعة التملك بطريق من الطرق. فبين سبحانه أنه لا يملك أصلا، ولا يستطيع أبدا.

قال بعض العلماء: المعنى: أنهم يعظمون غير الله مثل تعظيم الله. [ ص: 8 ] مع أن ذاك الغير لا قدرة له في ترزيقهم، ولا يد لهم عليه، لا في السماء، حتى يمطروا، ولا في الأرض حتى ينبتوا، ولا قدرة لهم على ذلك أي قدرة كانت. ومفهوم الآية: أن قول العامة: إن الأنبياء والأولياء، والشهداء والأئمة، لهم تصرف في العالم، وقدرة عليه، ولكنهم شاكرون لتقدير الله تعالى، راضون بقضائه، ولا يقولون شيئا، ولا يفعلون أمرا؛ أدبا منهم، ولو شاءوا لغيروا الأمور في آن، وسكوتهم إنما هو تعظيم للشرع الشريف، غلط فاضح، وكذب واضح؛ لأنهم لا يستطيعون شيئا، لا حالا، ولا استقبالا، ولا حول لهم على ذلك أصلا.

وهذه العقيدة فيهم شرك بالله سبحانه؛ لأنه ليس في الدار غيره ديار.

وقال تعالى: ولا تدع من دون الله [يونس: 106] أي: على حال من الأحوال: ما لا ينفعك ولا يضرك [يونس: 106] بشيء من النفع والضر إن دعوته. ودعاء من كان هكذا، لا يجلب نفعا، ولا يقدر على ضر، ضائع، لا يفعله عاقل، على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره. فكيف إذا كان موجودا؟ فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر، أقبح وأقبح.

فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [يونس: 106] هذا جزاء الشرط؛ أي: فإنك في عدادهم: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو أي: إن الله سبحانه هو الضار النافع. فإن أنزل بعبده ضرا، لم يستطع أحد أن يكشفه، كائنا من كان، بل هو المختص بكشفه، كما اختص بإنزاله.

وإن يردك بخير ؛ أي خير كان، لم يستطع أحد أن يدفعه عنك، ويحول بينك وبينه، كائنا من كان.

[ ص: 9 ] قال النيسابوري: في تخصيص الإرادة بجانب الخير، والمس بجانب الشر، دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات، والشر بالعرض. قلت: وفيه نظر؛ لأن المس هو أمر وراء الإرادة، فهو مستلزم لها.

فلا راد لفضله ، أي: لا دافع لرزقه، ووضع "الفضل" موضع الضمير؛ للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير، لا استحقاق لهم عليه، ولم يستثن؛ لأن مراد الله تعالى لا يمكن رده، وإرادة الله قديمة لا تتغير، بخلاف مس الضر؛ فإنه صفة فعل يصيب به أي: بفضله، أو بكل واحد من الخير والضر من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم [يونس: 107].

عن عامر بن قيس، قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهن عن جميع الخلائق: أولهن: وإن يمسسك الله الآية. والثانية: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له [فاطر: 2]. والثالثة: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها [هود: 6]. أخرجه البيهقي في "الشعب"، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن نحوه.

وبالجملة: فالآية الشريفة دليل على رد الإشراك في التصرف. قال بعض أهل العلم: دعاء من لا ينفع ولا يضر، وهو عاجز مع وجود القادر العزيز ظلم وعدول عن الحق إلى الباطل، وفيه إعطاء رتبة الكبير للعاجز الحقير الفقير. وفيه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهي له عن دعاء غيره، وأن دعاء من دون الله يجعل الداعي من الظالمين لأنفسهم. وأن النفع والضر، ليس إلا بيد الله تعالى، وهو المختص بإرادتهما لمن شاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية