صفحة جزء
وقال تعالى: أو فسقا أهل لغير الله به [الأنعام: 40] أي: ذبح للأصنام، ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، وسمي فسقا؛ لتوغله في باب الفسق.

وقيل: أهل به لغير الله فسقا، وهو تكلف لا حاجة إليه. وقيل: ذا فسق؛ أي: معصية، فهذا من قبيل المبالغة على حد: زيد عدل.

وفي "زادة": جعل العين المحرمة عين الفسق، مبالغة في كون تناولها فسقا، قيل: إلا أن يكون فسقا أو فسقا مهلا به لغير الله، فهو حرام. فيه: أن ما ذبح لغير الله حرام.

قال بعض أهل العلم: يعني: كما أن الخنزير والدم والميتة حرام، فكذلك [ ص: 57 ] الحيوان الذي ظهر في صورة عين الفسق حرام نجس أهل به لغير الله تعالى، كائنا ما كان، فدلت الآية على قبح تخصيص الحيوان باسم مخلوق من دون الله، وأنه نجس حرام.

وليس في الآية أن يسمي مخلوقا عند ذبحه، فيصير حراما، بل فيها: أن تسمية الحيوان باسم مخلوق يصير حراما نجسا، لا يحل أكله؛ كالبقرة المنتمية إلى السيد أحمد الكبير -أحد أجداد المؤلف- وكالغنم المعزو إلى الشيخ سدو، والديك المنسوب إلى زين خان.

فمن رفع الصوت على حيوان باسم أحد من المخلوقين فقد حرم أكل ذلك الحيوان، سواء كان ديكا، أو بعيرا، أو حيوانا آخر، وسواء كان ذاك المذبوح له نبيا، أو وليا، أو أبا، أو جدا، أو روحا خبيثا، أو جنيا. فكل ذلك حرام نجس مشرك؛ لأن ذبح الحيوان تقربا يختص باسم الله -سبحانه وتعالى- ولا يجوز لغيره أبدا سرمدا.

قال في «فتح البيان»: قوله تعالى وما أهل لغير الله [المائدة: 3] أي: ما رفع الصوت به، وسواء كان صنما، أو وثنا، أو نصبا، أو روحا خبيثا من جن، أو روحا طيبا من إنس؛ كنبي، أو ولي، أو صالح، حيا كان أو ميتا، فهو حرام.

وقد ورد في الحديث: «ملعون من ذبح لغير الله»؛ أي: سواء سمى الله عند ذبحه، أو لم يسم؛ لأن ما اشتهر من الحيوان على اسم غيره - سبحانه وتعالى - ورفع الصوت به باسم الفلاني، فلا ينفع بعد ذلك ذكر اسمه تعالى عند ذبحه؛ لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى ذلك الغير، وحدث فيه من الخبث ما زاد على خبث الميتة، فإنها لم يذكر عليها اسم غير الله، وهذا الحيوان قد عين ووجه لغير خالقه، ثم ذبح له، وهو الشرك بعينه.

وحين سرى هذا الخبث، وأثر فيه، لا يحل أكله بحال، وإن ذكر اسم الله عليه، كما لو ذبح الكلب أو الخنزير مثلا على اسمه لا يحل. [ ص: 58 ] والسر في ذلك: أن نذر الروح لغير خالق الروح لا يجوز. وإن كان حكم جميع المأكولات والمشروبات والأموال المنذور للتقرب إلى غير الله سبحانه هكذا، فإنها حرام وشرك. ولكن ثوابها الذي كان يعود إلى الناذر جعله للغير، كما جاز للإنسان أن يعطي ماله من يشاء. بخلاف روح الحيوان؛ فإنه ليس بمملوك للإنسان حتى يبذله لأحد غير الله. وإنما وجب الأجر في إنفاق المال؛ لأن المال شيء ينتفع به في الحال، ولما كان الموتى لا ينتفعون بعين المال، جعل طريق إيصال النفع إليهم أن تجعل الأموال المعطاة أهل الاستحقاق لهم، فيعود ثوابها إليهم. وأما روح الحيوان، فلا يصلح للانتفاع في حياة الإنسان، فكيف بعد مماته ومضي الأزمان؟

وأما الأضحية عن الميت التي ورد بها الحديث، فمعناها: أن الأجر الذي كان يثبت في إزهاق الروح لله - سبحانه وتعالى - يعطى ويبذل لذلك الميت، لا أنها تذبح لأجله، ويرفع به الصوت للتقرب إليه.

ولا يخفى أن هذه الآية الكريمة جاءت في أربعة مواضع من التنزيل، ومعناها: ما رفع به الصوت لغير الله، لا ما ذبح باسم غير الله، وإن قال جمهور المفسرين أو أكثرهم.

فمن رفع الصوت بحيوان لغيره تعالى، وأهل به، ثم ذكر اسم الله عند ذبحه فلا ينجع له هذا الذكر شيئا، ولا يأتي بفائدة، ولا يعود بعائلة. فإن الأعمال بالنيات، والله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم، ولا يحل أكله بناء على هذا الذكر والتسمية عند الذبح. وإنما الإهلال في لغة العرب بمعنى: رفع الصوت بشيء فقط، لا بمعنى: الذبح، كيف ولم يرد به عرف، ولا وقع في شعر قط؟!

[ ص: 59 ] هذه كتب اللسان العربي، ودفاتر اللغات على وجه البسيطة، ليس في أحد منها الإهلال بمعنى الذبح، وإنما يقال الإهلال: لرؤية الهلال، ولبكاء الطفل، وللتلبية بالحج، لا للذبح، فليس معنى أهللت لله: ذبحت له.

في "القاموس": استهل الصبي: رفع صوته بالبكاء؛ كأهل، وكذا كل متكلم رفع صوته أو خفض. وأهل: نظر إلى الهلال، والملبي: رفع صوته بالتلبية.

وقال الجوهري: استهل الصبي؛ أي: صاح عند الولادة، وأهل المعتمر: إذا رفع صوته بالتلبية، وأهل بالتسمية على الذبيحة، وقوله تعالى: وما أهل به لغير الله [البقرة: 173] أي: نودي عليه بغير اسم الله، وأصله: رفع الصوت. انتهى.

ولو سلم أن معناه: ذبح لغير الله، فأين هذا من معنى: ذبح باسم غير الله حتى تنتهض به الحجة؟ فالقول بأن الإهلال في هذه الآية ونظائرها بمعنى: الذبح، و «غير الله» بمعنى: اسم غير الله، يقرب بتحريف كلامه - سبحانه وتعالى - حاشاه عن ذلك.

وقد حكى النظام النيسابوري في "تفسيره" إجماع أهل العلم على أن ذبيحة مسلم التي قصد بذبحها التقرب إلى غير الله، ذبيحة مرتد، وقد صار هو مرتدا أيضا.

وكان الكفار في الجاهلية، إذا خرجوا من ديارهم، رفعوا الأصوات بأسماء الأصنام في الطرق والشوارع. وإذا وصلوا إلى مكة المكرمة، طافوا بالكعبة، مع أن طوافهم هذا لم يكن يقبل عند الله. ولهذا نزل قوله تعالى: فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [التوبة: 28]. [ ص: 60 ] فكذلك فيما نحن فيه، إذا رفع أحد الصوت بحيوان أنه لفلان، أو لأجله، أو يذبح له، ثم ذكر عليه اسم الله عند الذبح، فهاهنا لا تترتب عليه الحلة أصلا. نعم، إن يغير النية، ويبدل الأمنية، ويزيل قصد التقرب به إلى غير الله، ويرفع به الصوت خلاف ما وقع به أولا، ويقول: تبت عنه، ثم يذبح، ويذكر عليه اسم الله تعالى، يحل أكله.

وإذا تقرر لك أن الإهلال بمعنى رفع الصوت في اللغة، لا بمعنى الذبح، علمت أن الذي فسره بالذبح قد غلط غلطا بينا، أو تجوز، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، أو تأول رفع الصوت بالذبح؛ بناء على سبب النزول، وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقد فسرنا الإهلال في "البقرة"، و"المائدة"، و"الأنعام" بما فسر به جمهور المفسرين، وهو تسامح سبق به القلم. وإنما الحق في المقام تفسيره برفع الصوت، وإلغاء قيد الذبح؛ ليتناول النظم الكريم كل حيوان رفع به الصوت لغير الله - سبحانه وتعالى - سواء ذبح باسم الله، أو باسم غيره، وعليه تدل اللغة العربية، وهي الأصل المقدم في تفسير كلام الله على الجميع، ما لم يعارضه نص مقدم، أو ناقل مرجح، أو دليل مساو. والذي فسرنا به الآية هنا قد فسرها به الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي - رحمه الله تعالى - في "تفسيره"، وهو الصواب، وبالله التوفيق.

التالي السابق


الخدمات العلمية