صفحة جزء
وعلى الجملة: الحديث يشير إلى المنع من الاشتغال بالمدائح المنهي عنها، وينهى عن الغلو والمبالغة والإطراء والإغراق في توصيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن ذلك من خطوات الشيطان.

وإذا ثبت هذا النهي في حقه صلى الله عليه وسلم فغيره أولى به.

قال بعض أهل العلم في معنى هذا الحديث: يعني: ينبغي الأدب عند مدح أحد من الكبراء، فلا يوصف إلا بما يوصف به البشر، ويختصر في ذلك، ولا يجول في ميدان المدائح كالفرس الحرون؛ لئلا يقع سوء الأدب في جنابه - تبارك وتعالى - ولفظ «السيد» له معنيان:

أحدهما: أن السيد هو الذي يكون مالكا مختارا بنفسه وحده، ولا يكون [ ص: 212 ] محكوما عليه من أحد، بل يكون حاكما مستقلا بذاته ؛ كشأن الملوك في الدنيا، فهذا الأمر إنما هو شأن الله تعالى، ليس غيره سيدا بهذا المعنى.

وثانيهما: أن السيد رعوي لآخر، ولكن له فضل على عامة الرعايا، ممتاز منهم بالمزايا، ينزل إليه حكم الحاكم أولا، ثم يبلغ إليهم من لسانه، وبوساطته ؛ كـ «مرزبان» القرى، و «قهرمان» المحلات، و «خوانين» السوقة.

فالنبي بهذا المعنى سيد لأمته، والإمام سيد أهل عصره، والشيخ سيد لمريديه، والعالم سيد لتلامذته، والمجتهد لمتبعيه.

فإن هؤلاء الكبار الكرام يتمسكون بحكم الله تعالى أولا بأنفسهم، ثم يبلغونه إلى أصاغرهم ويعلمونهم.

وهكذا نبينا صلى الله عليه وسلم سيد أهل العالم أجمعهم، وأكتعهم وأبصعهم، ومرتبته عند الله - عز وجل - أعلى من الجميع، وأكبر من الكل.

وهو صلى الله عليه وسلم أقوم الخلق وأكبرهم في القيام بأحكام الله تعالى، وكل الناس محتاجون إليه في تعلم سبل الله وشرائعه، وعلى هذا يصح أن يقال له: سيد العالم، بل يجب أن يعتقد فيه هذه السيادة العامة الشاملة للجميع.

وأما بناء على المعنى الأول، فليس هو صلى الله عليه وسلم سيد نملة واحدة، فضلا عن غيرها ؛ لأنه - عليه السلام - لا يقدر على التصرف في نملة من تلقاء نفسه.

وبالجملة: الغلو في مدائح الأنبياء والصلحاء نوع من أنواع الشرك الخفي، ولذلك قال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ، والغلو: هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد.

والمعنى: لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، فتنزلوه [المنزلة] التي لا تنبغي إلا لله.

والخطاب، وإن كان لأهل الكتاب، فإنه عام تناول جميع الأمة ؛ تحذيرا لهم من أن يفعلوا مثل فعل النصارى في عيسى، وفعل اليهود في عزير -عليهما السلام- [ ص: 213 ] كما قال تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل [الحديد: 16] الآية.

وتقدم حديث: «لا تطروني كما أطرت النصارى» قريبا، وسيأتي حديث أنس في النهي عن الرفع فوق المنزلة.

فكل من وصف نبيا أو وليا، بما لم يجز، فقد غلا، واتخذه إلها، وضاهى النصارى في شركهم، واليهود في تفريطهم.

فإن النصارى غلوا في المسيح، واليهود عادوه، وسبوه، وتنقصوه. فالنصارى أفرطوا، واليهود فرطوا.

قال شيخ الإسلام: من تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط فيه وتفريط، فقد شابههم.

قال: وعلي -عليه السلام- حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم.

لكن مذهب ابن عباس، أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء وجمهور المحدثين. 50قلت: وكان هذا التحريق على غلوهم في مدحه - رضي الله عنه - ؛ حيث اعتقدوا فيه ما ليس بثابت.

فكذلك كل من يغلو في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويطري في وصفه بما ليس بجائز في الشرع، ولم يرد به دليل وجاوز فيه إلى حد الغلو والإغراق، فهو مستحق للقتل وإزهاق الروح عند العلماء بالاتفاق، ووصفه هذا منهي عنه، قبيح أشد القباحة.

وأما أحاديث السكارى، فما أحقها بأن تطوى على غرها، ولا تروى. وإنما الكلام فيمن يعقل ويأكل ويفهم، ويقول الشعر، ويعرف معناه، ثم [ ص: 214 ] لا يجتنب من مثل هذه الكبائر الموصلة له إلى حد الكفر البواح، بل يعتقده حسنة من حسناته، ويفتخر بقوله في المحافل والمجالس - نعوذ بالله من الخذلان -.

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أريد أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله تعالى».

هذا نص في محل النزاع، وفيه دلالة على النهي عن الغلو في المدائح والأوصاف التي لم يرد بها الشرع، ولم يأذن بها الله.

«أنا محمد بن عبد الله، عبده ورسوله» رواه رزين - هذا بيان المنزلة التي أنزلها الله تعالى رسوله الكريم.

أي: قولوا لي: عبد الله، ورسول الله، ولا ترفعوني فوق هذه المنزلة، كما رفعت النصارى عيسى بن مريم - عليهما السلام - وكما رفعت أدباء هذه الأمة وشعراؤها في كلامهم المنثور والمنظوم، وبلغوا به إلى غاية تستلزم إساءة الأدب في حضرة الله - عز وجل - بل منزلتي الرفيعة التي منحنيها - سبحانه وتعالى - هي هذه العبودية والرسالة منه إلى خلقه.

فمن رفعني فوق ذلك، وأخرجني عن دائرة العبودية لله تعالى ورسالته، وجاء بما يفيد المزية على هذا، فقد بعد عن سواء السبيل، وأتى بما هو غير ثابت من الله الجليل، ووقع بسبب ذلك في حبالة الشيطان، وشرك الشرك.

قال بعض أهل العلم في معنى هذا الحديث: يعني: كما أن الكبراء والسادة الآخرين يفرحون بالمبالغة في مدائحهم ومناقبهم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فالرسول صلى الله عليه وسلم قال ليس كذلك.

لأنهم لا غرض لهم بدين المداحين الواصفين المطرين، بقي أم ذهب.

والنبي صلى الله عليه وسلم بأمته رؤوف رحيم، وعليهم شفيق، ولم يكن له شغل إلا إصلاح دين أمته، وإنجاءهم مما يهلكهم ويضرهم.

[ ص: 215 ] فلما علم أن أمتي له محبة عظيمة بي، ويشكرون إحساني إليهم، وقد جرت العادة أن الإنسان إذا مدح محسنه ومحبوبه يبالغ في ثنائه، ويتجاوز الحد في مدحه وإطرائه، فأرشد صلى الله عليه وسلم أمته إلى النهي عن التجاوز في مدحه ؛ لأن في هذا إثبات أوصاف الألوهية في رسول الإله، وهو يبطل الإيمان، ويهدم الإسلام، ويهلك الدين، ويجعل المداح عدوا له صلى الله عليه وسلم.

فقال: إني لا أرضى بهذه المبالغة والإطراء والتجاوز في المديح والثناء، بل اسمي محمد، لا إله، ولا خالق، ولا رازق، ولا متصرف، ولا مالك، ولا شريك الباري في القدرة والعلم والحياة، ونحوها من الصفات الواجبة التي اختصت به سبحانه.

وقد ولدت من أبوي كما تولد الناس من آبائهم وأمهاتهم، وإنما أنا بشر مثلكم، وفخري هي هذه العبودية، وامتيازي من الناس هو علمي بأحكام الله، وغفلة الناس الآخرين منها.

فيلزمهم أن يتعلموا مني شرائع الله تعالى رب العالمين، ولا يرفعوني فوق هذه المرتبة إلى أبد الآبدين.

ويؤيده حديث ابن عباس مرفوعا: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال والأقوال. انتهى.

ويزيده إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا. رواه مسلم.

و «المتنطع»: المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه، على مذاهب أهل [ ص: 216 ] الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.

ومن التنطع: الإطالة، والإطراء في مدائح الأنبياء والصلحاء.

وقال ابن الأثير: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقاصي حلوقهم، مأخوذ من «النطع» وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق، قولا وفعلا.

قال النووي: فيه كراهة التقعر في الكلام بالشدق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة، ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم. انتهى.

وإنما قال ذلك ثلاثا؛ مبالغة في التعليم والبلاغ.

وبالجملة: هذا الحديث كما شمل أهل الكلام، والرأي، والفقه، والقياس، فكذلك شمل الشعراء والناظمين والناثرين، في مدائح الرسول صلى الله عليه وسلم الآتين بما لم يجز في الدين من الغلو القبيح، والوصف السوء في ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم طيور في هواء المعاني، متعمقون في إبداع المباني.

يفتخر أحدهم بإيجاد تركيب، وترتيب مبان ومعان لم يسبق إليها، وهي عن الأدب بمراحل، وعن القدر بمعزل.

وقد اشتمل على أوصاف ضاهت أوصاف الله، بل ربت عليها.

ومنهم من يصفه صلى الله عليه وسلم بسمات اختارها الشعراء لمعاشيقهم من وصف الخط والخال، وتشبيههما بالظلم والكفر، ونحوهما معاذ الله من الخذلان ..

أين هذا من ذاك؟ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض [مريم: 90]هل يصح في عقل أو شرع، أن يجعل رسول الأمة أو نبيها معشوقا ظالما، أو محبوبا كافرا، أو قاتلا لمحبه بالعين الشهلاء، أو ذاهبا للبه بالغنج والدلال والفروع السوداء، ونحو ذلك؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون [التوبة: 30].

ولولا أنا رأينا مثل هذا الصنيع في كلام من يدعي محبة الرسول، ويلقب نفسه بعاشق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقول فيه شعرا، يشتمل على مثل هذه الكفريات [ ص: 217 ] الصريحة والباطلات الخبيثة، وهو على ألسنة الناس اشتهر، وبه كل حمار افتخر، لما تعرضنا بذكر ذلك، والله سبحانه منتقمهم مما هنالك.

التالي السابق


الخدمات العلمية