صفحة جزء
فصل في رد الشرك في الشفاعة

أي: بيان ما أثبته القرآن منها، وما نفاه، وحقيقة

ما دل القرآن الكريم على إثباته ونفيه

قال تعالى: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع [الأنعام: 51].

الإنذار، معناه: الإعلام بأسباب المخافة، والتحذير منها.

قال الفضيل بن عياض: ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون، وهم المؤمنون باليوم الآخر، أصحاب القلوب المتعظة، والأذن الواعية.

وقال تعالى: قل لله الشفاعة جميعا [الزمر: 44]؛ أي: هو مالكها، وليس لمن تطلب منه شيئا منها، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل ما سواه ؛ لأن ذلك عبادة وتأله، لا يصلح إلا لله.

قال البيضاوي: لعله رد لما عسى أن يجيبوا به، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون. انتهى.

وقبلها: أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون [الزمر: 43].

[ ص: 290 ] بين سبحانه في هذه الآية وأمثالها: أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه، منتف وممتنع، وأن اتخاذهم شفعاء، شر يتنزه الرب عنه.

وقد قال تعالى: فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [الأحقاف: 28].

فيه: أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتألفهم، إفك منهم، وافتراء لا أصل له.

ويؤيد بطلان اتخاذ الشفعاء من دونه قوله: له ملك السماوات والأرض ، لأنه مالك الملك، ودرج في هذا ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها، بطل أن تطلب ممن لا يملكها.

قال ابن جرير: نزلت هذه لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

وقال تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [البقرة: 255] أي: في الدار الآخرة؛ لأن الشفاعة إنما تقع فيها بإذنه ؛ كما قاله سبحانه: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا . فيه: أنها لا تقع لأحد إلا بشرطين: إذن الرب للشافع بالشفاعة، ورضاه عن المأذون بها.

وهو: سبحانه لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، وكان العبد لقي ربه مخلصا له الدين، غير شاك في رب العالمين؛ كما يدل لذلك الحديث الصحيح الآتي قريبا.

وقال تعالى: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [النجم: 26]

قال ابن كثير: هذا كقوله: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، وقوله: يومئذ لا تنفع الشفاعة [طه: 109] إلخ.

فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة [ ص: 291 ] هذه الأنداد عند الله، وهو سبحانه لم يشرع عبادتها، ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عنها جميع كتبه.

وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض [سبإ: 22] الآيات.

قال ابن القيم في الكلام على هذه الآيات الشريفة: قد قطع الله الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعا.

فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: 1- الملك 2- والشركة فيه 3- والإعانة والظهور 4- والشفاعة.

فإن لم يكن مالكا، كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له، كان معينا له ظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا، كان شفيعا عنده.

فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى الأدنى. فنفى الملك، والشركة فيه، والمظاهرة، والشفاعة التي يطلبها المشرك. وأثبت شفاعة لا نصيب فيها للمشرك، وهي الشفاعة بإذنه سبحانه.

فكفى بهذه الآية نورا، وبرهانا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك وموارده، لمن عقلها.

والقرآن العظيم مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع منهم تحته، وتضمنه له، ونصه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ويعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب، وبين فهم القرآن.

ولعمر الله! إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، أو فوقهم في الضلالة والبدعة، وتناول القرآن الكريم لهم كتناوله لأولئك.

[ ص: 292 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية