صفحة جزء
حقيقة الكهانة

وأما الكهانة، فالكاهن: هو الذي يأخذ عن مسترقي السمع، وكانوا قبل البعث كثيرا، وأما بعد البعث فإنهم قليل؛ لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب.

وأكثر ما يقع في هذا: ما يخبر به الجن مواليهم من الإنس عن الأشياء الغائبة مما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفا وكرامة، وقد اغتر بذلك كثير من الناس، يظنون ذلك المخبر لهم عن الجن وليا لله، وهو من أولياء الشيطان كما قال تعالى: ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها [الأنعام: 128].

وروى مسلم في «صحيحه» عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أتى عرافا، فسأله عن شيء، فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوما».

المراد ببعض الأزواج هنا: حفصة -رضي الله عنها- ذكره أبو مسعود الثقفي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في «الأطراف» في مسندها.

وظاهر الحديث: أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه، أو شك في خبره؛ فإن بعض روايات «الصحيح»: «من أتى عرافا، فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين يوما».

وإذا كان هذا حال السائل، فكيف بالمسؤول؟

[ ص: 318 ] قال

النووي وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث؛ فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة. انتهى.

وفي الحديث: النهي عن إتيان الكاهن ونحوه.

قال القرطبي: يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم؛ فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال ما في إتيانهم من المحذور.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أتى كاهنا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» [رواه] أبو داود، والأربعة، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.

وعنه «من أتى عرافا، وكاهنا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» رواه أحمد، والبيهقي، والحاكم.

ولا تعارض بين هذا وبين الحديث المتقدم، في عدم قبول الصلاة عند القائل بكفر دون كفر.

وأما من يقول بظاهر الحديث، فظاهر الحديث: أنه يكفر من اعتقد صدقه بأي وجه كان.

وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين.

قال القرطبي: والمراد بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-: الكتاب والسنة. انتهى.

وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يتوقف فيه، فلا يقال: يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد -رحمه الله تعالى- ولأبي يعلى بسند جيد، عن ابن مسعود، مثله موقوفا.

[ ص: 319 ] وهذا الأثر، رواه البزار أيضا، ولفظه: «من أتى كاهنا أو ساحرا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم».

وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب، وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك، ويرضى به، وذلك كفر أيضا.

وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- مرفوعا: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن [له] أو سحر أو سحر له». الحديث.

رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس.

وفي «ليس منا» وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر.

وتقدم أن الكهانة والسحر كفر.

ومعنى «تطير»: فعل الطيرة، ومعنى «تطير له»: قبل قول المتطير له، وتبعه، وكذلك من عمل الساحر له السحر.

فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها، فقد برئ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكونها: إما شركا كالطيرة، أو كفرا كالكهانة والسحر.

فمن رضي بذلك وتابع، فهو كالفاعل؛ لقبوله الباطل واتباعه.

قال البغوي: «العراف»: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك. انتهى.

وظاهر هذا أنه هو الذي يخبر عن الوقائع؛ كالسرقة وسارقها، والضالة ومكانها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إن «العراف» اسم للكاهن، والمنجم، والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق؛ كالحازر الذي يدعي علم الغيب، أو يدعي الكشف.

قال: والمنجم يدخل في اسم العراف، وعند بعضهم: هو في معناه. قال: والمنجم أيضا يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، [ ص: 320 ] وحكي ذلك عن العرب، وعند آخرين: من جنس الكاهن، وأسوأ حالا منه، فيلحق به من جهة المعنى.

وقال الإمام أحمد: «العراف» طرف من السحر، والساحر أخبث.

وقال أبو السعادات: العراف، والمنجم، والحازر: الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله به.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم، سموه عائذا، وعرافا.

والمقصود من هذا كله: من يدعي معرفة شيء من المغيبات، فهو إما داخل [في] اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى، فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر في بعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل، والزجر، والطيرة، والضرب بالحصى، والخط في الأرض، والتنجيم، والكهانة، والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية.

ونعني بـ«الجاهلية»: كل من ليس من أتباع الرسل -عليهم السلام- كالفلاسفة، والكهان، والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن هذه علوم القوم، ليس لهم علم بما جاءت به الرسل.

وكل هذه الأمور يسمى صاحبها: كاهنا وعرافا، ومن في معناهم.

فمن أتاهم، فصدقهم بما يقولون، لحقه الوعيد.

وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام، فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أولياء، وأن ذلك كرامة.

ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بإخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن؛ إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عباده المؤمنين المتقين، إما بدعاء، أو أعمال صالحة، لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها.

[ ص: 321 ] بخلاف من يدعي أنه ولي الله، ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، أو أخبر بها، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت الأسباب محرمة كاذبة في الغالب؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف الكهان: «إنهم يكذبون معها مائة كذبة».

فبين -عليه الصلاة والسلام- أنهم يصدقون مرة، ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان؛ ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛ لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [النجم: 32].

وليس هذا من شأن الأولياء، بل شأنهم الإزراء على نفوسهم، وعيبهم لها، وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس فيقولون: اعرفوا أنا أولياء، وأنا نعلم الغيب، وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور؟!

وحسبك بحال الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- وهم سادات الأولياء، وقادة الأصفياء، ونخبة الصلحاء، وخلاصة النبلاء، وسلف الأمة وأئمتها.

هل كان عندهم من هذه الدعاوي الطويلة، والشطحات العريضة شيء؟ لا والله.

بل كان أحدهم لا يملك نفسه إذا قرأ القرآن، كالصديق -رضي الله عنه- وكان الفاروق - رضي الله عنه- يسمع نشيجه من وراء الصفوف، ويبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل، فيمرض منها ليالي يعودونه. .

وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلا؛ خوفا من النار، ثم يقوم إلى صلاته.

فالأولياء يكونون كذلك، ويكفيك في صفاتهم ما ذكره الله -سبحانه وتعالى- في سورة الرعد، والمؤمنين، والفرقان، والذاريات، والطور.

فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء والأصفياء الذين قال تعالى فيهم:

[ ص: 322 ] إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار [ص: 46] وقال: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله [النور: 37] لا هؤلاء الكذابون أهل الدعوى والمنازعة لرب العالمين فيما يختص به من الكبرياء، والعظمة، والجبروت، وعلم الغيب، والتصرف في الأمور.

فمجرد دعواهم لعلم الغيب كفر بواح، فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله؟ بل [وهو] ولي الشيطان، خارج عن دائرة الإيمان.

ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم الشركية، والفنون الكفرية عن طوائف المشركين، وأفراخ الفلاسفة الملاعين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب وسفهاء الأحلام، وأضلوا كثيرا من الذين يظنون أنهم من خواص الناس، فضلا عن العوام. نسأل الله سبحانه السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.

وقد عد العلامة الشوكاني -رضي الله عنه- في «شرح مختصره» الكاهن ممن يستحق القتل حدا، فقال: والكاهن؛ لكون الكهانة نوعا من الكفر، فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر، وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر، فبالأولى الكاهن إذا كان معتقدا بصحة الكهانة. قال: وفي الباب أحاديث، ثم ذكر بعض ما تقدم.

وبالجملة: ففيه أنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم: «ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق» رواه الطبراني مرفوعا، وإسناده ضعيف، ولفظه: «رب معلم حروف أبي جاد، دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة».

و«أرى» -بفتح الهمزة- بمعنى: «أعلم» وبضمها: «أظن».

[ ص: 323 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية