صفحة جزء
[ ص: 5 ] النصيب الثاني في بيان الاعتصام بالسنة والاجتناب عن البدعة وهو معنى أشهد أن محمدا رسول الله

وإنك إذا جمعت هذين النصيبين ، وأسفر لك الصبح في العينين ، عرفت أن هذا الكتاب كالشرح للكلمة الطيبة التي هي «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» .

اللهم أحينا على هذه الكلمة ، وأمتنا عليها .

[ ص: 6 ] [ ص: 7 ] باب في الاعتصام بالسنة والاجتناب عن البدعة

قال الله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا [آل عمران : 103] الحبل : لفظ مشترك وأصله في اللغة : السبب الذي يتوصل به إلى البغية .

وهو إما تمثيل ، أو استعارة مصرحة أصلية ، تحقيقية .

أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام ، أو بالقرآن ، وقد وردت أحاديث بأن كتاب الله هو حبل الله ، وأن القرآن هو حبل الله المتين .

قال أبو العالية : بالإخلاص لله وحده . وعن الحسن : بطاعته . وعن قتادة : بعهده وأمره .

وعن ابن زيد : بالإسلام . ولا تفرقوا بعد الإسلام كما تفرقت اليهود والنصارى ، أو كما كنتم في الجاهلية متدابرين .

وقيل : لا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ، ويزول معه الاجتماع .

والمعنى : نهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين ، وعن الفرقة; لأن كل ذلك عادة الجاهلية .

والنهي أصل في التحريم ، وقد خالف أكثر الناس هذا النهي ، وتفرقوا فرقا ، وتحزبوا أحزابا ، وتحنفوا ، وتشفعوا ، وتملكوا ، وتحنبلوا ، وأحدثوا بدعا وأقيسة ، زال معها الاجتماع والائتلاف ، وجلس موضعهما التباين والاختلاف ، وقد كانوا مسمين بأهل السنة والجماعة ، فصاروا مسمين بأهل البدعة والفرقة .

[ ص: 8 ] واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ آل عمران : 103] .

أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم; لأن الشكر على الفعل أبلغ من الشكر على أثره .

وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين ، يقتل بعضهم بعضا ، وينهب بعضهم بعضا ، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخوانا في الدين والولاية .

قال ابن عباس : كانت الحرب بين «الأوس» و «الخزرج» عشرين ومئة سنة ، حتى قام الإسلام ، وأطفأ الله ذلك ، وألف بينهم .

قلت : وسياق الآية الشريفة يشير إلى إيثار الائتلاف ، والكون على صفة الأخوة ، ويرشد سياقها إلى الاعتصام بالكتاب والسنة ، في حكمة ، وينهى عن الافتراق .

وكل آفة جاءت في الإسلام ، وكل بلاء شمل المسلمين ، فإنما هو من هذه الفرقة ، وترك الاعتصام بالقرآن والحديث ، وصار أهل الملة الإسلامية اليوم يضلل بعضهم بعضا ، ويبدع أحدهم الآخر ، ويكفر بعضهم بعضا ، ويرد بعضهم على بعض في التأليفات ، من غير قرآن ولا برهان ، وعاد الزمان كما كان في الجاهلية ، إلا من رحمه الله تعالى .

وهذا من أشراط الساعة ، وأسباب غربة الإسلام وأهله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا [آل عمران : 105] هم اليهود والنصارى ، عند جمهور المفسرين; فقد تفرق كل منهم فرقا ، واختلف كل منهم باستخراج التأويلات الزائغة ، وكتم الآيات النافعة وتحريفها ، لما أخلدوا إليه من حطام الدنيا .

ويدل له حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن بني [ ص: 9 ] إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة» ، قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي .

وفي رواية أحمد ، وأبي داود ، عن معاوية : «ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة . . . إلخ» .

وهذا الحديث نص في محل النزاع; فإنه يدل على أن الفرقة الناجية هي التي يقال لها اليوم : أهل السنة والجماعة .

وفي حق هذه الجماعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويد الله على الجماعة ، ومن شذ ، شذ في النار» أخرجه الترمذي عن ابن عمر . وقال : «وإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة» رواه أحمد عن معاذ بن جبل .

وروى أيضا أحمد ، وأبو داود ، عن أبي ذر مرفوعا : «من فارق الجماعة شبرا ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» .

وفي الباب أحاديث ، كلها تدل على أن الجماعة هي عصابة أهل الكتاب والسنة ، وأن الفرق غيرها هي الشعاب ، كانت ما كانت ، وأن هذه الفرقة دخلت في هذه الأمة من جهة تقليد بني إسرائيل; فإن أصل الداء من عندهم ، والناس مقتدون بهم .

وفيه : إشارة إلى أن المتمذهب بالمذاهب المتفرقة ، خلاف مفهوم الجماعة ، وأنه يخرج أهلها من الاجتماع الذي هو النور إلى الظلمات التي هي الشعاب والمذاهب .

وقيل في الآية : هم المبتدعة من هذه الأمة ، والبدعة تخالف الاعتصام بالقرآن والحديث; لأن في الإتيان بها رفعهما; كما في حديث غضيف بن الحارث يرفعه : «ما أحدث قوم بدعة ، إلا رفع مثلها من السنة ، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة» رواه أحمد .

وعن حسان ، قال : «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم ، إلا نزع الله من سنتهم [ ص: 10 ] مثلها ، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة» رواه الدارمي .

وقيل : المراد بالآية : «الحرورية» ، والأول الظاهر ، وكذا الثاني .

قال بعض أهل العلم : هذا النهي عن التفرق والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية .

وأما المسائل الفروعية الاجتهادية ، فالاختلاف فيها جائز ، وما زال الصحابة فمن بعدهم مختلفين في أحكام الحوادث . انتهى .

وتعقبه في «فتح البيان» ، وقال : فيه نظر; فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجودا ، وتخصيص بعض المسائل بجواز الاختلاف فيها ، دون البعض الآخر ، ليس بصواب; فالمسائل الشرعية متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع . انتهى .

ويوضحه : أن المذاهب في الأصول ثلاثة لا غير : مذهب الماتريدية ، ومذهب الأشعرية ، ومذهب الحنابلة . ولا اختلاف فيما بينهم إلا في مسائل قليلة عديدة لا تزيد على اثنتي عشرة مسألة أو نحوها .

وإنما الاختلاف الكثير الواقع هو في المسائل الفروعية التي لأجلها صارت الأمة جنودا متفرقة ، وأحزابا متباينة ، وهذا هو المنهي عنه ، المذموم على لسان الله ولسان رسوله .

وكم من آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالكون في الجماعة ، والنهي عن الفرقة .

من بعد ما جاءهم البينات [آل عمران : 105]; أي : الحجج الواضحات المبينات للحق ، الموجبات لعدم الاختلاف والفرقة ، فعلموها ثم خالفوها .

وهذه حال هذه الأمة الإسلامية اليوم ، فإنها علمت ما ورد من الله تعالى ورسوله في ذمها والنهي عنها ، ثم خالفت أوامر نبيها ونواهيه ، وتمسكت [ ص: 11 ] بتقليدات الرجال وآراء الأحبار والرهبان ، فكان اختلافها أشد كراهة; لأن العصيان بعد العلم أقبح منه على الجهل .

هذه دواوين السنة المطهرة من كتب الصحاح الستة ونحوها ، قد عمت وطابت ، وهي في أيدي أهل الزمان ، بل في يد كل إنسان ، وقد وقف عليه الفقهاء وأصحاب الرأي ، وإن كان وقوفهم عليها لتأييد المذهب وتشييد النحلة ، فشقاقهم - بعد هذا العبور والعثور - تفرقة واختلاف بعد مجيء البينات القرآنية والحديثية ، وعلى هذا يترتب قوله تعالى : وأولئك لهم ; أي : لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا عذاب عظيم في الآخرة .

قال في «فتح البيان» : فيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرقة والاختلاف ، ثم ذكر حديث أبي ذر المتقدم وقال عن عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من سره أن يسكن بحبوبة الجنة ، فعليه بالجماعة ، فإن الشيطان مع الفذ ، وهو من الاثنين أبعد» رواه البغوي بسنده . انتهى .

وفيه : إشارة إلى أن الاثنين وما فوقهما جماعة .

ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة : أن جماعة أهل الحديث قديما وحديثا كثيرة أضعاف أضعاف الاثنين بل ثلث الأمة ، يصدق ذلك كتب طبقات المحدثين ، وأنه لا يزال طائفة منهم ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى يأتي أمر الله .

اللهم أحينا جماعة ، وأمتنا جماعة ، واحشرنا في زمرة السلف الصلحاء ، وجماعتهم يوم القرار .

يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [آل عمران : 106] . قال ابن عباس : يقول : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة . وروي نحوه عن ابن عمر ، وأبي سعيد .

قيل : إن البياض كناية عن الفرح والسرور ، والسواد كناية عن الغم والحزن والشرور .

[ ص: 12 ] وقيل : هما حقيقة يحصلان في الوجه ، وقيل : المراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكفار .

ولا مانع من الحمل على الجميع ، فيدخل فيه أهل السنة وأهل البدعة دخولا أوليا .

فأما الذين اسودت وجوههم . قيل : هم أهل الكتاب ، وقيل : المرتدون ، وقيل : المبتدعون ، وقيل : الكافرون . والعموم أولى .

ويقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب أمر إهانة بما كنتم تكفرون ; أي : تنكرون السنة ، وتأخذون البدعة ، وتشركون لا توحدون .

وأما الذين ابيضت وجوههم هم المؤمنون المتبعون للكتاب والسنة ، المجانبون عن البدعة والمحدثات ففي رحمة الله هم فيها خالدون ; أي : مستقرون في الجنة دار الكرامة .

وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم [الأنعام : 159]; أي : تركوه وخرجوا عنه باختلافهم فيه .

يعني : جعلوا دينهم متفرقا ، فأخذوا ببعضه ، وتركوا بعضه ، وتمسكوا بالبدع والمحدثات; من التقليد ، والرأي ، ورفضوا السنة والاتباع .

قيل : المراد بهم : أهل الكتاب ، وقيل : المشركون . وقال أبو هريرة : هم أهل الضلالة من هذه الأمة . وقيل : عام في جميع الكفار ، وفي كل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله .

وهذا هو الراجح الأظهر; لأن اللفظ يفيد العموم ، فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب ، وأهل الشرك والبدع من أهل الإسلام .

أخرج ابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحكيم الترمذي ، والشيرازي في «الألقاب» عن أبي هريرة ، عنه صلى الله عليه وسلم في الآية ، قال : هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة» ، والصحيح أنه موقوف .

[ ص: 13 ] وعن عمر - رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : «يا عائش! إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع ، وأصحاب الأهواء ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، ليست لهم توبة ، وهم مني براء» رواه الطبراني ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، وغيرهم .

قال ابن كثير : هو غريب لا يصح رفعه ، يعني : أنه موقوف .

ولكن مثل هذا لا يقال من الرأي ، فله حكم الرفع ، ويدل له أحاديث أخرى مرفوعة .

وعلى كل حال ، المراد بهذه الآية : الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة ، وألا يتفرقوا في الدين ، ولا يبتدعوا البدع المضلة .

روى أبو داود والترمذي عن معاوية ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاثة وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة» .

وعن ابن عمرو بن العاص يرفعه : «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلها في النار ، إلا ملة واحدة» ، قالوا : ومن هي يا رسول الله؟ قال : «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي .

وقد بين صاحب كتاب «خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان» ، وكتاب «حجج الكرامة» حال هذه الفرق الثلاثة والسبعين ، وسماهم ، وعين الفرقة الناجية منهم .

ومن هذا التفريق : هذه المذاهب الأربعة في أهل السنة ، وهذه الجماعات الأربعة في الحرم الشريف ، نص على ذلك جماعة من أهل السنة في مؤلفاتهم .

وكانوا شيعا ; أي : فرقا وأحزابا .

[ ص: 14 ] فيصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحدا [وهم] مجتمعون ، ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم ، يخالف الصواب وبيان الحق .

وما أبلغ هذه الآية ! فإنها تشير إلى ذم التشيع ، وصحة إطلاق هذه اللفظة على كل مخالف للجماعة وأهل السنة . لست منهم ; أي : من تفرقهم ، أو من السؤال عن سبب تفرقهم ، والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء ، فلا يلزمك من ذلك شيء ، ولا تخاطب به ، إنما عليك البلاغ . والمعنى : أنت بريء منهم . وقال الفراء : لست من عقابهم في شيء ، وإنما عليك الإنذار .

إنما أمرهم إلى الله في الجزاء والمكافأة على تشيعهم وتشعبهم ، ثم ينبئهم يوم القيامة ، ويخبرهم بما ينزل بهم من المجازاة بما كانوا يفعلون من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم ، وأوجب عليهم من اتباع الكتاب والسنة ، واجتناب البدع والضلالة ، وإيثار التوحيد على الشرك والتنديد ، واختيار الاعتصام وترك التقليد .

وقال تعالى : ولا تكونوا من المشركين [الروم : 31]; أي : من يشرك به تعالى غيره في العبادة من الذين فرقوا دينهم باختلافهم فيما يعبدونه وكانوا شيعا «الشيع» : الفرق; أي : ولا تكونوا من الذين تفرقوا في الدين ، يشايع بعضهم بعضا ، من أهل البدع والأهواء ، فيصلي بعضهم في مصلى الحنفية ، وبعضهم في مصلى الحنبلية ، وبعضهم في مصلى المالكية ، وبعضهم في مصلى الشافعية في «الحرم الشريف المكي» حيث اختار كل ذي مذهب معين شخصي مقلد لإمامه ، مصلى خاصا له ولأهل جلدته ، وهذا من أقبح البدعات .

وكذلك حال من لا يصلي في مسجد أهل الحديث ، ولا يترك أهل الحديث يصلون في مساجدهم .

وقرئ : (فارقوا دينهم) ; أي : الذي يجب اتباعه ، وهو التوحيد ، وهي قراءة سبعية .

كل حزب ; أي : كل فريق من فرق الضلال ، والبدع ، والأهواء ، والآراء ، [ ص: 15 ] والإشراك ، والكفر بما لديهم من الدين المبني على غير الصواب ، وجاءهم من الأمهات والآباء والأحبار والرهبان الذين هم لهم أرباب فرحون [الروم : 32]; أي : مسرورون مبتهجون ، يظنون أنهم على الحق ، وليس بأيديهم منه شيء .

ومعيار ذلك يظهر عند عرض المجتهدات ، والأقيسة الباطلات ، والآراء الفاسدات ، والتأويلات الكاسدات ، على نصوص الكتاب العزيز ، وأدلة السنة المطهرة .

وهذا تسجيل من الله - عز وجل - ، وتوقيع منه سبحانه لتاركي القرآن والحديث ، على أن ظنهم هذا وفرحهم بذلك باطل ، وليس لهم من أصل الحق والصواب شيء ، ولنعم ما قيل :

وكل يدعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما [الأنعام : 153]; أي : ما ذكر في هذه الآيات من الأوامر والنواهي . قاله مقاتل . وقيل : الإشارة إلى ما ذكر في السورة; فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة ، وبيان الشريعة .

و «الصراط» : هو طريق دين الإسلام . و «المستقيم» : المستوي ، الذي لا اعوجاج فيه .

وقد تشعبت منه طرق ، فمن سلك الجادة ، نجا ، ومن خرج إلى الطرق ، أفضت به إلى النار .

فاتبعوه وأمرهم باتباع جملته وتفصيله ولا تتبعوا السبل نهاهم عن اتباع سائر الأديان المتباينة طرقها ، والمذاهب المستحدثة سبلها ، والأهواء المضلة ، والبدع والآراء المختلفة .

فتفرق بكم عن سبيله ; أي : فتميل بكم عن سبيل الله المستقيم ، الذي هو اتباع الكتاب والسنة .

قال ابن عطية : هذه السبل تعم اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، وسائر [ ص: 16 ] أهل الملل ، وأهل البدع والضلالات ، من أهل الأهواء والشذوذ ، في الفروع ، وغير ذلك ، من أهل التعمق في الجدل ، والخوض في الكلام ، وهذه كلها عرضة للزلل ، ومظنة لسوء المعتقد .

قال قتادة : اعلموا أن السبيل واحد : جماعة الهدى ، ومصيره الجنة ، وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة : جماعة الضلالة ، ومصيره إلى النار .

ثم ذكر حديث : «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا» ، وسيأتي . قال ابن عباس : السبل : الضلالات .

قال ابن مسعود : من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، فليقرأ هؤلاء الآيات . أخرجه الترمذي ، وحسنه .

ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ; أي : أكد عليكم الوصية بما تقدم ذكره ، من اتباع سبيل واحد ، هو اقتداء الكتاب والسنة; لعلكم تخافون ما نهاكم عنه من الطرق المختلفة ، والسبل البدعية المضلة .

وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران : 31] . الحب والمحبة : ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه .

يقال : أحبه ، فهو محب . وحبه يحبه - بالكسر - فهو محبوب .

قال : ابن الدهان في «حب» لغتان : حب ، و «أحب» ، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته .

قال الأزهري : محبة العبد لله ولرسوله : طاعته لهما ، واتباعه أمرهما . ومحبة الله للعباد : إنعامه عليهم بالغفران .

وقيل : العبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن كل ما يراه كمالا من نفسه أو من غيره ، فهو من الله وبالله ، لم يكن حبه إلا لله ، وفي الله ، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه .

فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة ، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته ، والحث على مطاوعته ، قاله القاضي .

[ ص: 17 ] أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن ، من طرق ، قال : قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد! إنا لنحب ربنا ، فأنزل الله هذه الآية ، وفي حديث عائشة عند ابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في «الحلية» مرفوعا : وهل الدين إلا الحب والبغض في الله» .

قال الله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله الآية . والمعنى : إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله ، فكونوا منقادين لأوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، مطيعين لهما ، فإن اتباع الرسول من محبة الله وطاعته .

وفيه : حث على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإشارة إلى ترك التقليد المشؤوم عند وضوح النص من الكتاب والسنة ، وأن دعوى محبة الله ، أو محبة الرسول بدون اتباع القرآن والحديث ، وترجيحهما على كل قول قديم وحديث باطلة لا تصح من قائلها ، وأن محبة الله لعباده موقوفة على الاعتصام بكتابه وسنة رسوله .

ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل عمران : 31] يغفر ذنوب الموحدين المتبعين ، ويرحمهم بفضله وكرمه .

وهذا تذييل مقرر لما قبله قل أطيعوا الله والرسول حذف المتعلق مشعر بالتعميم; أي : في جميع الأوامر والنواهي .

والمقلد غير مطيع لله وللرسول ، بل يطيع من يقلده من الأئمة والكبراء ، بل هو مشاق بهذا لهما ، حيث ترك إطاعة الله واتباع الرسول ، وأطاع غيرهما ، من غير حجة نيرة وبرهان جلي .

فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [آل عمران : 32] فيه : أن الإعراض عن إطاعة الله ، واتباع رسوله من شأن الكفار ، وأنه سبحانه لا يرضى بفعلهم ، ولا يغفر لهم .

والآية دليل على أن الدين المرضي هو الإسلام ، وأن محمدا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه .

[ ص: 18 ] وأن من تعلق بغير كتابه وسنة رسوله ، فهو عن الاتباع المطلوب منه بمعزل . وفي هذا وعيد عظيم لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه .

التالي السابق


الخدمات العلمية