صفحة جزء
للإسلام أصلان فقط : القرآن والسنة الصحيحة

وحاصل الكلام هنا : أن كل سبيل يخالف سبيل الله ورسوله - اللذين هما عبارتان عن اتباع الكتاب والسنة ، واقتداء الحديث والقرآن - ، فإنه سبيل النار ، وعليه شيطان ظاهر أو خفي يدعو إليها .

ومعيار ذلك عرض المجتهدات والقياسات من كل مذهب - مسمى بأي اسم مما اشتهر أو لم يشتهر - على هذين الأصلين اللذين لا ثالث لهما ، فضلا عن الرابع .

فما وافق منها صرائح الكتاب والسنة ، وظواهر القرآن والحديث ، فهو الحقيق بالأخذ ، والاتباع ، والاهتداء ، والاقتداء .

وما خالفها ، فهو رد على صاحبه ، مضروب به في وجهه ، كائنا من كان ، وفي أي محل من الأرض أقام .

وإنما حصرنا الأصول في كتاب الله تعالى ، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم; لأن الأمة مأمورة بهما .

والاحتجاج بالإجماع فيه أنظار وأقوال لأهل العلم . والصحيح عدم وجوده مع الإمكان كما حققه في «إرشاد الفحول» ، و «حصول المأمول» ، وغيرهما .

ولهذا أنكره إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رضي الله عنه - .

فما ظنك بالقياس الذي قاسه واحد من أهل العلم من آحاد الأمة ، الذي هو أيضا متعبد بهما كسائر الأمة؟ .

[ ص: 37 ] فمن قدم اجتهادا فقهيا ، أو قياسا فرعيا ، أو رأيا فلسفيا ، أو هوى بدعيا ، أو اعتقادا شركيا ، على أدنى سنة جاءت من صاحب السنة وشارعها عند أهل السنة ، فليس هو من الفرقة الناجية ، وسالكي سبيل الله في ورد ولا صدر; لأن من خالف كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قدر رأس شعرة ، فقد ضل ضلالا بعيدا ، وخرج من دائرة الإسلام خروجا شديدا .

وكيف يصح أن يطلق عليه اسم أهل السنة والجماعة ، وهو تارك السنة ، ومفارق الجماعة ، سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماعة الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم؟

وإنما مصداق هذا الاسم من هو على سيرة السلف ، من اتباع القرآن والحديث ، يحب لله ، ويبغض في الله ، ولا يخاف في ذات الإله لومة لائم ، ولا يخوض فيما لا يعنيه ، ولا يقلد أحدا في خلاف الشارع - عليه السلام - .

وليس في مدينة قلبه راية إلا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا لواء إلا لواء كتاب الله ، فما أحقه بهذا الاسم الشريف ، واللقب المنيف !!

وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لا يكون هواه تبعا لما جاء به والذي جاء هو به ، هو القرآن ومثله معه ، بل أكثر منه وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم : 3- 4] .

روي في «محيي السنة في شرح السنة» عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .

أي : من الدين الصادق ، والشريعة الحقة ، لا من الإكراه وخوف السيف; كالمنافقين . و «الهوى» : هو ميل النفس من الحق إلى الباطل .

قال في «أشعة اللمعات» : إن كان المراد بالمتابعة : الاتباع في الاعتقاد ، والعمل ، والعبادات ، والعادات على وجه الكمال ، والتسليم ، والرضاء بأحكامه صلى الله عليه وسلم ، عند معارضة داعية الحق ، وباعثة الهوى ، فالمراد : نفي الإيمان الكامل .

[ ص: 38 ] وإن كان المراد بها : التبعية في اختيار دين الإسلام وحقيته ، فالمراد : نفي أصل الإيمان .

وقال : «تبعا» ، ولم يقل : منتفيا ولا منعدما ، لأن الانتفاء والانعدام مطلقا غير ممكن ، وأيضا ليس بكمال ، ولا موجب أجر وثواب ، بل الكمال أن يكون الهوى ، ولكن يكون تابعا للحق ، منقادا لأمره .

قال النووي في «أربعينه» : هذا حديث صحيح رويناه في كتاب «الحجة» بإسناد صحيح .

وعن بلال بن الحارث المزني - بضم الميم ، وفتح الزاي ، وكسر النون رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي» ; أي : تركت ، وهجرت ، وضيعت .

والمراد بإحيائها . إظهارها ، وإشاعتها بالقول والعمل ، كما في «المرقاة» .

وفيه : أن سننه صلى الله عليه وسلم تموت بعده ، وقد وقع كذلك ، فهذا الحديث علم من أعلام النبوة . «فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها ، من غير أن ينقص أجورهم شيئا» يعني : يؤجر العاملون بها أجرا كاملا تاما ، ويؤجر محييها أيضا أجرا سابغا كاملا ، لا يتطرق إلى أجورهم وأجره نقصان ، وذلك من آثار رحمة الله على عباده المتبعين ، وقد سبقت رحمته على غضبه للمسلمين الموحدين ، وهذه بشارة لو أنفق عليها الأنفس والأموال ، لكان حقيقا بذلك ، اللهم وفقنا بما هنالك . «ومن ابتدع بدعة ضلالة ، لا يرضاها الله ورسوله» .

قال في «المرقاة» : قيد به; لإخراج البدعة الحسنة .

وزاد في «أشعة اللمعات» : لأن فيها مصلحة الدين ، وتقويته ، وترويجه .

انتهى .

وأقول : هذا غلط فاحش من هذين القائلين; لأن الله ورسوله لا يرضيان بدعة ، أي بدعة كانت .

ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الحسنة منها ، لما قال فيما تقدم من الأحاديث :

[ ص: 39 ] كل بدعة ضلالة ، وكل محدثة بدعة ، وكل ضلالة في النار .

كما ورد بهذا اللفظ حديث آخر ، بل هذا اللفظ ليس بقيد في الأصل ، هو إخبار عن الإنكار على البدع ، وأنها مما لا يرضاه الله ولا رسوله .

ويؤيده قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم [الحديد : 27] .

وأما ظن مصلحة الدين وتقويته فيها ، فمن وادي قوله سبحانه : إن بعض الظن إثم [الحجرات : 12] .

ولا أدري ما معنى قوله سبحانه : إن بعض الظن إثم ولا أدري ، معنى قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة : 3] إن كانت تلك المصلحة في ترويج البدعات .

يا لله العجب من أمثال هذه القالة! ألم يعلموا أن في إشاعة البدع إماتة السنن ، وفي إماطتها إحياء الدين وعلومه؟ والذي نفسي بيده! إن دين الله الإسلام كامل تام غير ناقص ، لا يحتاج إلى شيء في إكماله وإتمامه ، ونصوصه مع أدلة السنة المطهرة كافية وافية شافية لجميع الحوادث والقضايا إلى يوم القيامة ، يعرف ذلك من هو قال لهما ، مدرس فيها بفهم صحيح ، عالم بهما بقلب سليم ، له يد طولى في مذاكرتهما .

غير أن أهل الرأي الذين لا يرفعون إليهما رؤوسهم ، ولا يبالون بالمواعيد التي جاءت بها السنة على ترك الاعتصام بذيلهما لا يكادون يفقهون حديثا : وبأي حديث بعده يؤمنون .

فهم ليسوا من أهل العلم عند التحقيق ، وإن عدوا من أعلام الدنيا وفحول الفقه ، حتى يعتد بهم في هذا الخلاف .

«كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» بل هو وهم متساوون في وزر الابتداع ، وعقاب الضلال والإضلال. رواه [ ص: 40 ] الترمذي ، ورواه ابن ماجه عن كثير بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، عن جده .

وفي معناه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من دعا إلى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم ، مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» رواه مسلم .

والمعنى : من دعا بالفعل ، أو بالقول . والله أعلم .

عن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الدين ليأرز إلى الحجاز» ; أي ينضم ، وفي حديث أبي هريرة : «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» بتقديم : الجيم المضمومة على الحاء المهملة .

والحية أشد فرارا وانضماما بالنسبة إلى الدواب الأخرى ، فلذا شبه الإيمان بها في الجمع والضم .

والحجاز يعم «مكة» و «المدينة» ، وفيه بيان فضيلة الحرمين الشريفين - زادهما الله تعظيما وتشريفا - ، «وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل» يعني : يلوذ الدين بأرض الحجاز ويأخذها ملجأ ومسكنا ، ويرجع إليها حين تظهر الفتن ، ويستولي أهل الكفر والفساد في آخر الزمان ، عند خروج الدجال كما تلوذ الشاة الجبلية ، وهي الأروية ، وخصها بعضهم بالأنثى من المعز الجبلي .

و «المعقل» . مصدر ميمي ، بمعنى العقل .

«إن الدين بدا غريبا» بدا بلا همزة بمعنى : ظهر ، لكن قال النووي : ضبطناه بالهمزة من الابتداء ، كذا نقله الأبقري . حكى ذلك في «المرقاة» .

«وسيعود كما بدا» يعني : كان أهل الدين في الصدر الأول وابتداء الإسلام غرباء ، ينكرهم الناس ، ولا يخالطونهم ، فكذا يكون في آخر الزمان عند ظهور الفتن .

[ ص: 41 ] وهذا الحديث علم من أعلام النبوة ، حيث وقع ما أخبر به ، ووجد مصداقه من زمن كثير .

«فطوبى للغرباء ، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي» . رواه الترمذي .

وروى مسلم عن أبي هريرة بلفظ : «بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود كما بدأ ، فطوبى للغرباء» . انتهى .

فالمراد بـ «الدين» في حديث الباب ، الإسلام ، كما قال تعالى : إن الدين عند الله الإسلام .

وفيه بشارة للغرباء ، وبيان فضيلتهم ، وأنهم مصلحون للسنن التي أفسدها الناس; بترك العمل بها ، وعدم إشاعتها بإحداث البدع في مقابلتها .

قال السيد : يريد : أن الإسلام لما بدأ في أول الوهلة ، نهض بإقامته قليلون من أشياع الرسول ، فشردهم القبائل عن البلاد ، فأصبحوا غرباء ، ثم يعود آخرا إلى ما كان عليه ، لا يكاد يوجد من العاملين به إلا الأفراد . انتهى .

قلت : وهكذا حال أهل السنة في هذا العصر; فإنهم أصبحوا غرباء ، يرميهم كل مشرك ومبتدع بكل حجر ومدر ، في كل قطر ، إلا ما شاء الله ، وينالون منهم كل نيل بتأليف الكتب الرادة عليهم ، وتقبيحهم باللسان ، والقدح فيهم على إصلاح فاسد السنن ، وإماتة البدع ودفع الفتن .

التالي السابق


الخدمات العلمية