صفحة جزء
[ ص: 73 ] القول بوحدة الوجود من الغلو

وأقول : الحديث يعم كل ما يخالف صريح الكتاب والسنة ، كائنا ما كان ، ويناقض طريق السلف من الصدر الأول .

ومن الغلو : القول بوحدة الوجود وبالعقائد التي لم يأت بها من الله ولا من رسوله برهان ولا سلطان ، وفي هذا تحريف للأدلة .

والمراد بالانتحال : اتخاذ المذاهب المخالفة للسنة نحلة له; كمذاهب الحكماء والفلاسفة ومزجها في الإسلام ، واستعمالها في كتب الأصول والفروع ، وبناء الاجتهاد والقياس على براهين العقل وحجج أهله .

والمراد بالجاهلين : المقلدة ، والمتصوفة الجهلة; لأن أهل العلم نصوا على أنهم ليسوا بعلماء .

ولا شك أن ضرر هاتين الفرقتين في الإسلام أشد من ضرر الذئاب على قطائع الغنم ، وكل بلاء يرى في الدين فإنما هو من جهة هؤلاء المبتدعين المبطلين الجاهلين .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العلم ثلاثة : 1- آية محكمة 2- أو سنة قائمة 3- أو فريضة عادلة ، وما كان سوى ذلك ، فهو فضل» رواه أبو داود ، وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال في الترجمة : «الآية» إشارة إلى كتاب الله ، وتخصيصه بالمحكمة; لأنها أم الكتاب وأصله ، محفوظة عن الاحتمال والاشتباه ، وما سواها مشتبه محمول عليها .

والمراد بالقائمة : الثابتة بحفظ المتون وأسانيدها . والمراد بالفريضة : الإجماع والقياس المستندان بالكتاب والسنة . وإنما قيل لها : عادلة; لكونها مساوية لهما في وجوب العمل .

فتحصل من ذلك أن أصول الدين أربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس . انتهى .

[ ص: 74 ] وأقول : تفسير الفريضة بالإجماع والقياس ، خلاف ظاهر الحديث ، بل المراد بالفريضة : أنصباء الورثة ، وإنما خصها بالذكر - مع كونها داخلة في الآية والسنة - لإضاعة أكثر الناس لها ، ولهذا قال في حديث آخر : «تعلموا الفرائض والقرآن ، وعلموا الناس; فإني مقبوض» رواه الترمذي عن أبي هريرة .

فذكر الفرائض مع القرآن دليل على أن المراد بالفريضة في حديث الباب أيضا هذه الفرائض التي أمر بتعلمها وتعليمها ، لا الإجماع ولا القياس .

ولم يأت في لغة ولا شرع إطلاق لفظ «الفريضة» على هذين اللفظين .

فلا ندري من أين جاؤوا بهذا التفسير ، الذي هو بالتحريف والتأويل أشبه منه .

وعندي : أن تفسيرها بمثل هذا الكلام من وادي المغالطة المنهي عنها على لسان الشارع - عليه السلام - .

فقد روى معاوية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات . رواه أبو داود .

ويزيده إيضاحا : أن حديث ابن مسعود يرفعه : «تعلموا العلم ، وعلموه الناس ، تعلموا الفرائض وعلموها الناس تعلموا القرآن وعلموه الناس; فإني امرؤ مقبوض ، والعلم سينقبض وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحد يفصل بينهما» رواه الدارمي ، والدارقطني .

والمراد بالفريضة في هذا الحديث : هي فرائض الإرث ، والمراد بالاختلاف فيها : عدم العدل .

فنص على أن الفريضة العادلة : السوية التي لا ضرر فيها ولا ضرار ، هي إحدى أنواع العلم .

ولا شك أن العلماء بهذه الفريضة أقل قليل في الدنيا بالنسبة إلى سائر العلوم ، وقد ذهب هذا العلم من أكثر الخلق ، ولم يبق منه إلا في أفراد شاذة ، لاسيما العمل بها ، الذي هو عبارة عن العدل فيها وفق الكتاب والسنة .

[ ص: 75 ] وقد ظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم على ما رواه علي مرفوعا : «يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم عامرة ، وهي خراب من الهدى ، علماؤهم شر من تحت أديم السماء ، من عندهم تخرج الفتنة ، وفيهم تعود» رواه البيهقي في «شعب الإيمان» .

تأمل يا هذا في الحديث ، وانظر في اسم الإسلام ، ورسم القرآن ، فإن إسلام الاسم كثير في هذا الزمان ، وكذلك طبع القرآن في مطابع شتى من العرب والعجم ، ويزداد كل يوم طبعه الذي هو الرسم ، والعامل به أقل قليل .

وكذلك وجد مصداق باقي الحديث في هذا الزمان الحاضر ، وكثر رفع المساجد وبناؤها وزخرفتها بالجدران المنقشة ، والثياب المتلونة ، والآلات الملمعة ، وعمت البلوى والفتن من الذين يسمون : علماء ، فضلاء ، فقهاء ، وعادت فيهم .

فهم - كما في الحديث - «شر من تحت أديم السماء» . والله المستعان ، وبه التوفيق ، وعليه التكلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية