صفحة جزء
بيان حكم من يقول : أنا مؤمن إن شاء الله

وقد استدل بظاهر هذه الآية الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - ، ومن قال بقوله : أنه يجوز أن يقول : أنا مؤمن حقا ، ولا يجوز الاستثناء .

وأجيب عنه بأن الاستثناء ليس على طريق الشك ، بل للتبرك; كقوله : «وإنا - إن شاء الله - بكم لاحقون» مع العلم القطعي أنه لاحق بهم .

والمراد : صرف الاستثناء إلى الخاتمة ، وإنما حكم بكونهم مؤمنين حقا في هذه الآية إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة كما يفيده لفظ «إنما» ; لأنه للحصر .

فمن أخل بشيء من هذه الأمور ، فقد أخل في إيمانه على قدر الإخلال . 1- فإن من ترك الصلاة عمدا ، فقد كفر . 2- ومن ترك الزكاة ، فقد فسق . 3- ومن لم يتوكل ، فقد أشرك . 4- ومن لم يزد إيمانه بسماع الآية; فقد نقص تصديقه .

ومن لم يخشع قلبه لذكر الله ، فهو قاسي القلب - أعاذنا الله من ذلك ، ورحمنا ، وغفر لنا ما هنالك - .

لهم درجات [الأنفال : 4]; يعني : فضائل ورحمة ، وقيل : أعمال رفيعة ، وقيل : الجنة ، وقيل : منازل كرامة وخير وشرف في الجنة ، كائنة عند ربهم ، وفي كونها عنده ، زياد تشريف لهم ، وتكريم ، وتعظيم ، وتفخيم ، وتبجيل ، ومغفرة لذنوبهم ، صيغة الجمع تشير إلى غفران الصغائر منها والكبائر مع التوبة ، وهو الظاهر ، ومع عدمها خرقا للعادة من الكريم الرحيم الرحمن على عباده المبتلين بالآثام والعصيان والطغيان إن شاء الله تعالى - .

[ ص: 81 ] وعن ابن زيد ، قال : مغفرة بترك الذنوب ، ورزق كريم دائم مستمر يكرمهم الله تعالى به ، من واسع فضله ، وفائض جوده .

وعن ابن زيد قال : هو الأعمال الصالحة ، وعن محمد القرظي ، قال : إذا سمعتم الله يقول : ورزق كريم ، فهو الجنة . انتهى .

وأقول : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فيدخل فيه كل نعمة خارج الجنة وداخلها ، وفضل الله أوسع من ذلك . اللهم اجعلنا من أهل فضلك ، ولا تجعلنا ممن تعدل فيهم فنهلك .

وقال تعالى : والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا [الأنفال : 74]; أي : الكاملون في الإيمان; لأنهم حققوه بتحصيل مقتضياته; من هجرة الوطن ، ومفارقة الأهل والسكن ، والانسلاخ من المال والدنيا والوطن; لأجل الدين والعقبى ، والآخرة الحسنى .

لهم مغفرة لذنوبهم في الآخرة ، وفي الدنيا ورزق كريم خالص عن الكدر طيب مستلذ .

والأولى تفسير الرزق بالجنة وما يليها في العقبى من النعم ورحمة الله الواسعة كما تقدم .

ولفظ «الحق» يدل على زيادة الإيمان ، ويشير إلى أن من ليس متصفا بهذه الأوصاف في وقت الفرض عليه ، فإيمانه ناقص ضعيف ، غير قوي ، بخلاف المتصف بها; فإنه كامل في إيمانه ، قوي في إيقانه ، صميم في إذعانه ، صادق بصميم جنانه ، عامل بأركانه ، والمطلوب الأولى من جميع العباد وتمام الأمة هو هذا الإيمان الكامل الذي لا يشوبه نقص ، ولا زوال .

والآية الشريفة دالة على أن الهجرة والجهاد في سبيل الله ، وإيواء المسلمين ، ونصر المؤمنين ، من فضائل الإيمان الكامل .

[ ص: 82 ] والمؤمنون عاملون بها ، طالبون لها ، راغبون فيها ، نادمون على تقصيراتهم في تحصيلها ، وعلى صدور الذنوب منهم ، وبهذا استوجبوا للمغفرة ، والرزق الكريم . اللهم اغفر لي ، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم .

وقال تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [المؤمنون : 1-2] .

الخشوع : جعله بعضهم من أفعال القلوب; كالخوف ، والرهبة ، وبعضهم جعله من أفعال الجوارح; كالسكون ، وترك الالتفات ، والعبث ، وهو في اللغة : السكون ، والتواضع ، والخوف ، والتذلل .

واختلف : هل هو من فرائض الصلاة ، أو من فضائلها؟ . وادعى ابن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته .

ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن [النساء : 82] ، والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى ، وكذا قوله : إنني أنا الله [طه : 14] ، والغفلة تضاد الذكر ، ولهذا قال : ولا تكن من الغافلين [الأعراف : 205] ، وقوله : حتى تعلموا ما تقولون [النساء : 43] نهي للسكران والمستغرق في هموم الدنيا; لعدم الخشوع منه .

وعن علي - كرم الله وجهه - ، قال : الخشوع في القلب ، وألا تلتفت في صلاتك . وقيل : خاضعون بالقلب ، ساكنون بالجوارح ، وهذا من فروض الصلاة عند الغزالي .

وذهب غيره إلى أنه ليس بواجب .

والحاصل : أن المعتبر هو خشوع الظاهر والباطن ، وهو الذي أثنى عليه الله تعالى في كتابه ، فينبغي الاهتمام التام بشأنه ما أمكن .

والذين هم عن اللغو معرضون [المؤمنون : 3] ، اللغو : كل باطل ، ولهو ، وهزل ، ومعصية ، وما لا يجمل من القول والفعل ، وقيل : «اللغو» هنا : الشرك ، وقال الحسن : المعاصي كلها ، وقيل : معارضة الكفار بالسب والشتم ، وقيل :

[ ص: 83 ] كل ما كان حراما ، أو مكروها أو مباحا ، لم تدع إليه ضرورة ولا حاجة ، وقيل : البدع .

والأولى عدم تخصيصه بشيء ونوع من الباطلات; لأن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، وتدخل فيه هذه الأشياء دخولا أوليا .

والمعنى : أن لهم عن الجد ما شغلهم عن الهزل .

وفي وصفهم بالخشوع أولا ، وبالإعراض ثانيا ، جمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس ، وهما قاعدتا بناء التكليف .

والذين هم للزكاة فاعلون [المؤمنون : 4]; أي : يؤدونها ، عبر عن التأدية بالفعل; لأنها مما يصدق عليه الفعل . وقد جمع الله سبحانه الزكاة والصلاة في مواضع من كتابه يعسر عدها في هذا المقام .

والذين هم لفروجهم حافظون [المؤمنون : 5] «الفرج» : يطلق على فرج الرجل والمرأة ، فهو اسم سوءتهما .

والمراد بحفظهما : أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحل لهم ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [المؤمنون : 6] المراد بذلك : الإماء وعبر عنهن بـ «ما» التي لغير العقلاء; لأنه اجتمع فيهن الأنوثة المنبئة عن قصور العقل ، وجواز البيع والشراء فيهن كسائر السلعات ، فأجراهن لهذين الأمرين مجرى غير العقلاء ، ولهذا تباع كما تباع البهائم .

والمراد بالإماء : الجواري .

والآية في الرجال خاصة; لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها .

والمعنى : أنهم حافظون لفروجهم في جميع الأحوال ، إلا في حال تزوجهم ، أو تسريهم; فإنهم غير ملومين في إتيانهن بجماع .

فمن ابتغى وراء ذلك من الزوجات ، وملك اليمين ، فأولئك هم العادون [المؤمنون : 7]; أي المجاوزون إلى ما لا يحل لهم .

[ ص: 84 ] فسمى سبحانه من نكح ما لا يحل : عاديا . وقد دلت هذه الآية الشريفة على تحريم نكاح المتعة .

وإنما ذكر سبحانه هذا الوصف للمؤمنين; لأن حفظ الفروج من مشكلات الأمور ، قل من ينجو منها .

ولهذا ورد في «صحيح البخاري» عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يضمن لي ما بين لحييه ، وما بين رجليه ، أضمن له الجنة» .

وفي حديث آخر عن عبادة بن الصامت : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اضمنوا لي ستا من أنفسكم ، أضمن لكم الجنة : 1- اصدقوا إذا حدثتم 2- وأوفوا إذا وعدتم 3- وأدوا إذا ائتمنتم 4- واحفظوا فروجكم 5- وغضوا أبصاركم 6- وكفوا أيديكم» رواه أحمد ، والبيهقي في «شعب الإيمان» .

التالي السابق


الخدمات العلمية