صفحة جزء
وجوب تقديم محبة الرسول على محبة سائر الخلق

وعن أنس - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» متفق عليه .

قال في الترجمة : علامة الإيمان الكامل : أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب وأعظم من كل شيء ، ومن كل إنسان عند المؤمن ، حتى من الولد والوالد اللذين هما أحب إليه بحكم الطبيعة والجبلة ، ومن سائر الخلق الذي له علاقة محبة ومودة به ، سواء كان هذا التعلق جبليا ، أو اختياريا .

قال : والمحبة قسمان :

أحدهما : جبلي خارج عن حد اختيار العبد ، وينجذب إليه طبعا وجبلة بالاضطرار .

وهذا القسم خارج عن المبحث ، فإن الكلام في الإيمان الذي أتي تكليف الشرع في تحصيله وتكميله .

فالمراد بالمحبة هنا : المحبة التي فيها مدخل للاختيار ، ويجري فيها التكليف .

والمراد بالأحبية : ترجيح الجانب النبوي صلى الله عليه وسلم في أداء حقه ، بالتزام دينه ، واتباع سنته ، ورعاية أدب جنابه ، وإيثار رضائه على كل شيء ، وكل بشر ، وكل ما سواه من النفس ، والولد ، والوالد ، والأهل ، والمال ، والمنال ، والعيال .

وعلامة هذا : أن يرضى بهلاك نفسه ، وفقد كل محبوبه ، لا بفوات حقه صلى الله عليه وسلم كما كان حال الأصحاب الكمل .

ولم يذكر هنا النفس ، كما ذكرها في الدعاء بقوله : «اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومالي وولدي» ; لأن في محبة الولد والوالد مدخلا للاختيار .

[ ص: 110 ] بخلاف محبة النفس; فإن في تكليف الأمة بها وفي أحبيته شدة وحرجا ، فلم يكلف بذلك ، خلافا لمحبة الحق - جل وعلا - .

ولهذا ورد في بعض الروايات : «ومن الماء البارد للعطشان» ، ولا مدخل في هذا للاختيار أصلا وقطعا .

ويحتمل أن يكون راعى التدريج والترتيب ، في التعلم والتربية ، ليحصل أولا مرتبة الأحبية بالنسبة إلى الولد والوالد ، ثم يكلف بها بالنسبة إلى النفس كما في قصة عمر الفاروق - رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عمر : هل تحبني فقط ، أم تحب غيري أيضا؟» .

فقال : المحبة مشتركة ، أحبك وأحب نفسي وولدي ومالي ومنالي . فضرب صلى الله عليه وسلم يده على صدره ، وقال : «ماذا الحال الآن ، وكيف تجدك؟» . قال : سقطت محبة الأهل والمال ، ولكن محبة النفس باقية .

فضرب على صدره مرة أخرى ، وسأله ، فقال : سقطت محبة الجميع إلا محبتك يا رسول الله .

عمرم ، ممه صرف دردفايت بادا جان ودل و دين من فدايت بادا     محبوب من أزجان ودل وعمرتوئي
برجيز من خسته برايت بادا



ومنشأ المحبة ، وباعث الردة : إما حسن ، وإما إحسان .

وهاتان الصفتان على وجه الكمال والتمام منحصرتان في ذات سيد الكائنات من بين جميع المخلوقات .

فإنه صلى الله عليه وسلم أجمل الخلق ، وأكملهم .

وهما في الحقيقة مقصورتان على الذات الكاملة وصفات ذات واهب العطيات جل جلاله ، وعم نواله .

والنبي صلى الله عليه وسلم مرآة لجماله وكماله - عز وجل - .

[ ص: 111 ] فالأحبية سواء نسبت إلى حضرة العزة ، أو إلى جناب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، صحيحة ، وهما في الحقيقة واحدة .

بم حسن وجمال في نهايت داري     بم جود و كرم بحد غاية داري
بم حسن ترا مسلم ست ، بم إحسان     محبوب توئي كه ، يردوآيت داري



قال في «اللمعات» : لم يرد حب الطبع; لأن حب الإنسان نفسه وولده طبع مركوز غريزي ، خارج عن حد الاستطاعة .

بل أراد به حب الاختيار المستند إلى الإيمان ، الحاصل من الاعتقاد ، الذي حاصله ترجيح جانبه صلى الله عليه وسلم في أداء حقه; بالتزام دينه ، واتباع طريقه على كل من سواه . انتهى .

قلت : وهذا الحديث أدل دليل على إيثار الاتباع ، وترك الابتداع ، وفيه الإرشاد إلى تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل من سواه في كل شيء من الأشياء .

حال المقلدين تنطق بكذبهم في ادعاء محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم

فانظر في حال المقلدين المدعين للأحبية ، وهم عن تصديق دعواهم هذه على مراحل شاسعة; لفوات الاتباع الكامل منهم .

وكيف يتصور اجتماع حب الرسول وحب غيره من الأحبار والرهبان الفحول في قلب واحد؟ .

بل كيف يصح تقديم قول الغير وفعله ، واجتهاده ، وقياسه ، على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ .

فمن اتبع سنته حق الاتباع ، فهو المصداق لهذا الحديث ، ومن سلك الشعاب ، وشذ عن جماعة الأصحاب ، فهو في الحقيقة باغض له صلى الله عليه وسلم .

وادعاؤه لمحبته ، فضلا عن أحبته كذب واضح .

وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة في هذا الباب ، كلها تدل على هذا المقصود .

[ ص: 112 ] ويدل له قوله سبحانه : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، ومفهوم ذلك : أن من لا يتبع السنن ، لا يحب الله أيضا ، ولا يحب رسوله صلى الله عليه وسلم على اليقين .

اللهم اجعلنا من خدم السنة المطهرة ، واحفظنا من البدع المضلة .

وعنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاث من كن فيه ، وجد بهن حلاوة الإيمان» هي استلذاذ الطاعات ، وتحمل المشاق في مرضاته تعالى ، ورضاء رسوله صلى الله عليه وسلم :

1- «من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . 2- ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله .

3- ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار»
متفق عليه .

فيه حث على إيثار حب الله ورسوله ، على حب كل من سواهما ، وبيان فضيلة الحب في الله وكراهة العود في الكفر .

وهل الإيمان إلا الحب والبغض لله وفي الله؟!! . ومن اتصف بهذه الصفات ، فقد صار مؤمنا كاملا . اللهم ارزقنا .

ولا ريب أن محبة الأمة السنية ، والجماعة الحديثية ، مع الصحب والعترة والأئمة الماضين ، والسلف الصالحين ، ومن المحدثين والمجتهدين ، مغمورة في حب الله وحب رسوله .

وتأتي بكل خير لصاحبها إذا كانت على الوجه الوارد ، ولا تكون خلاف الشرع مثل محبة الروافض أهل البيت ، ومحبة أهل البدع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحبة أهل الشرك أصحاب القبور .

وظني أن من يحب الله ورسوله لا يقدم محبة أحد عليهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية