صفحة جزء
[ ص: 148 ] معنى الإيمان بالقدر

والمراد بالإيمان بالقدر : أن يؤمن بأن كل ما يقع في العالم ، من الخير والشر ، وأعمال العباد ، وغيرها ، جميعها بتقدير الله ، وأنه تعالى قدر الكائنات في أزل الآزال ، إلى أبد الآباد . وكلها بخلقه ، وإرادته ، ومشيئته ، لا تخرج ذرة من تقديره .

ومع هذا ، للعباد في أفعالهم اختيار ما يترتب عليه الثواب والعقاب .

وتصوير هذه المسألة وتقريرها ، والجمع بين قضية التقدير والاختيار ، وترتب الجزاء الحسن والقبيح عليها ، ذو إشكال وصعوبة تامة .

والذي ينبغي أن يقال في هذا المقام : هو أن في الآدمي صفة يقال لها : الاختيار ، وأنه على بصيرة منه يرجح أحد جانبي الفعل أو الترك ، على الجانب الآخر ، بباعثة الشوق أو النفرة .

بخلاف حركة المرتعش ، فإنه لا اختيار له فيه أصلا .

فمذهب الجبرية القائلة بأن حركات الآدمي مثل حركات الجمادات ، فاسد من أبطل الباطلات ، وهذا معلوم بالمشاهدة .

وقد علم من الكتاب والسنة أن الأشياء كلها قدرت في الأزل ، وكلها بإرادة الله ومشيئته ، وخلقه وإيجاده .

ففسد أيضا مذهب القدرية القائلة : إن الآدمي خالق لأفعاله ، مستقل في أحواله .

وحقيقة الحال : أنه بين الجبر والقدر ، كما قال إمام العرفاء جعفر الصادق - سلام الله عليه وعلى آبائه الكرام - : لا جبر ولا قدر ، ولكن أمر بين أمرين ، وإن الله سبحانه خلق الأسباب والشرائط ، في إيجاد الأشياء ، على طريق جريان العادة ، كما خلق النار للإحراق والتسخين ، والماء للري والبل ، والطعام للشبع ، والسيف للقطع ، وذلك كله بخلقه وإيجاده ، بمدخلية هذه الأسباب ، ولو شاء لخلقها بلا أسباب ، وإن شاء لم يوجد مع وجود السبب .

[ ص: 149 ] فقصد الآدمي واختياره سبب لخلق الله الفعل له ، وهو الخالق للكل .

ووجود الأسباب والمسببات والشرائط والمشروطات ، جميعها واقعة في حيطة القضاء والقدر ، ولا تنافيهما ، والأمر والنهي بحكم الربوبية والعبودية .

والثواب والعقاب تصرف منه سبحانه في ملكه ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

وقيل : إن القدر سر لم يطلع الله عليه أحدا من الأنبياء والأولياء .

ولا يظهر حقيقة هذا السر إلا في دار الجنة التي هي محل ظهوره . وهذه المشكل لا ينحل إلا هناك .

قال : والظاهر : أن سيد الأنبياء ، وخلاصة الأصفياء صلى الله عليه وسلم ، مستثنى من هذا الحكم; لأن الله أعطاه علوم الأولين والآخرين ، وأراه حقائق الأشياء كما هي . والله أعلم ، وعلمه أحكم . انتهى ما في الترجمة .

وأقول : هذا الاستثناء غير صحيح إلى أن يأتي المدعي بدليل صحيح من كتاب الله العزيز ، أو السنة المطهرة دال على صحة هذه الدعوى ، وإلا فالظاهر الذي لا شك فيه ولا ريب : أن سر القدر والقضاء من جملة علوم الغيب ، وهذه العلوم لا يعلمها إلا الله ، فإنه المستأثر بذلك .

ولا يعلم الأنبياء والرسل ، ولا الأولياء والأصفياء منها إلا ما أخبرهم به سبحانه .

وما أخبرهم به ، فقد بلغوه إلى أممهم ، ولم يخفوا منه شيئا ، ولم يستثنوا أحدا من أمتهم بأمر خاص خفية .

فادعاء علم القدر والقضاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم ، دعوى داحضة ، وحجة ساقطة ، لا يساعدها نص من القرآن ، ولا سنة من سنن الإسلام .

ولعل بعض الصوفية أيضا لهجوا بذلك في حقه صلى الله عليه وسلم عند غلبة السكر ، وكذلك بعض العلماء .

[ ص: 150 ] ولعمرك! إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، وأحاديث السكارى تطوى ولا تروى .

والشحيح بدينه ، والحريص على إيمانه ، لا يقدم على مثل هذا الحكم أبدا ، وإنما يقتصر على ما ورد من الله تعالى ، أو من رسوله .

وإن كنت ممن لهم قلب سليم ، فالحق في هذا الباب عدم الخوض في درك حقائقه ودقائقه; فإن الله ورسوله ، إنما دعانا إلى الإيمان به ، ولم يكلفنا بالخوض فيه .

فما لنا والتعمق في شيء ليس بقدرتنا الاطلاع عليه ، ولا العلم به ؟ .

بل صريح الإيمان أن نطويه على غرة ، ونكل العلم بذلك إلى عالمه ، وهو الله تعالى فقط .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة ، والقدرية .

التالي السابق


الخدمات العلمية