صفحة جزء
بيان معنى المفاتحة في الحديث بقوله : «ولا تفاتحوهم»

وفي الترجمة : مشتق من الفتح ، بمعنى : الحكم; كما في قوله تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق [الأعراف : 89] ، والحاكم يقال له : الفاتح .

وقيل في تفسير الفتاح من الأسماء الحسنى : هو فاتح أبواب الرزق والرحمة على العباد ، والحاكم بينهم بالعدل .

وقال بعضهم : إن المراد بالمفاتحة هنا : الابتداء بالمجادلة والمناظرة معهم ، والنزاع في الاعتقاد الباعث على إثارة الشك والشبهة .

ومن هنا علم أن السلامة في سد باب المجادلة والمباحثة مع أهل البدع المتعصبة المضرة في الاعتقاد .

ويمكن أن يكون المراد : النهي عن ابتداء الكلام ، والمباسطة معهم . وهذا المعنى أنسب بقوله صلى الله عليه وسلم : «لا تجالسوا» ، وأشد وأغلظ في ترك صحبتهم واختيار المجانبة عنهم ، لا سيما من البحث والجدال والقيل والقال . انتهى .

وأقول : هذا هو الأولى في هذا الزمان الأخير ، ذي الفساد العريض الطويل والبلاء الكثير .

وقد استحسن مقلدة الأئمة الأربعة طريقة القدرية في إيثار الجدل والخلاف ، واختيار المكابرة والعصبية مقام المناظرة ، فالاحتياط للمرء المسلم ، والسلامة [ ص: 156 ] للإنسان المؤمن ، ألا يجالسهم ، ولا يصاحبهم ، ولا يفاتحهم ، ولا يجيب على هفواتهم ، ولا يبالي بشطحاتهم ، بل يصرف ساعات العمر التي يمضيها في هذه الخرافات ، وترهات البسابس ، في مطالعة الكتاب والسنة ، والشغل بهما ، درسا ، وتعليما ، وتعلما ، واعتمالا ، وفي ذكر الله ، والصلاة على رسوله ، والاستغفار لنفسه ، وأهله ، وعياله ، وإرشادهم إلى الطريقة المثلى ، التي هي اتباع القرآن والحديث ، والسكوت ، ولزوم البيوت ، وعدم المبارزة مع عبدة الجبت والطاغوت ، وترك المقابلة مع المرء الجاهل المبهوت ، الذي لا يهتدي إلى الحق سبيلا ، ولا يبتغي له إلى مرضاة الله دليلا . رواه أبو داود .

وعن عائشة - رضي الله عنها - : «ستة لعنهم ، ولعنهم الله ، وكل نبي يجاب» .

قال في الترجمة : هذه جملة دعائية ، أو استئنافية; كأنه لما لعن ، سئل لم لعنت عليهم ؟ فقال : لأن الله لعنهم ، وكل نبي إلخ» تأكيد و تقرير له .

1- الزائد . . . في كتاب الله» ; أي : المدخل فيه ما ليس منه ، أو المحرف للفظه ، ومعناه ، كما فعل أهل الكتاب بكتبهم .

وقيل : يحتمل أن يكون المراد : حكم الله . وإرادة الحكم من لفظ الكتاب صحيح شائع ، كلفظ «كتب» بمعنى : «فرض» ، والمخاطب بهذه الجملة الأمة .

فخرج من ذلك الأحاديث النبوية الزائدة على كتاب الله بنص الحديث ، وهو قوله : «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه» إلخ ، رواه أبو داود عن المقدام بن معديكرب .

وفي حديث العرباض بن سارية : «إنها لمثل القرآن ، أو أكثر . . . » إلخ . رواه أبو داود أيضا .

وهذا يفيد أن زيادة الحديث على القرآن ، لا ينافي القرآن ، بل لا يقال له الزيادة في نفس الأمر; لأنه مثله ، لا زائد عليه في الحقيقة والواقع .

«2- والمكذب بقدر الله» هذا موضع الاستدلال في هذا المقام ، وقد سبق الكلام عليه ، وفيه ، وله .

[ ص: 157 ] وفيه : أن مكذب القدر والقضاء ملعون ، واللعن دليل الحرمان عن خالص الإيمان .

«3- والمتسلط بالجبروت» ; أي : الإنسان المستولي القوي الغالب على بلاد الإسلام وأهله ، من غير حق ، والحاكم بالتكبر والعظمة ، الناشئان عن الشوكة والولاية .

والجبروت : فعلوت ، على المبالغة من الجبر ، وهو القهر . «ليعز من أذله الله ، ويذل من أعزه الله» هذا كالنتيجة للتسلط ، وقد رأينا وسمعنا كثيرا من هذا الباب من بعد القرون المشهود لها بالخير ، وهكذا تكون الحال فيما يأتي من الزمان .

ولا شكوى من أهل الكفر والطغيان المتسلطين على المسلمين; فإن ذلك دأبهم أبدا مع غيرهم كائنين من كانوا ، إنما الشأن كل الشأن فيمن تسلط من الذين يدعون الإسلام ، غلبوا على بلاد من مملكة الإسلام ، جبروتا ، وأعزوا أعداء الله ، وأذلوا أولياء الله ، وروجوا رسوم الشرك ، والبدع ، والكفر والضلال . ولم يمنعوا الناس عن المنكرات في الإسلام ، والمهلكات لهم في الدنيا والدين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، مع أنهم قادرون على تغييرها بأيديهم ، وأن غيرهم من غرباء المسلمين وعلمائهم لا يقدر على إزالة المنكر إلا بلسانه أو بقلبه . فما أدري ماذا يعذرون به غدا يوم الحساب .

«4- والمستحل لحرم الله» بأن يفعل فيه ما لا يحل; كالصيد ، وقطع الشجر ، ونحوهما .

والحرم : هو مكة المكرمة وحواليها ، وما وراءها يقال له : «الحل» ، وفي بعض النسخ : «الحرم» - بضمتين - جمع حرمة; أي : مستحل حرمات الله .

قال التوربشتي : هذا تصحيف ممن لا مهارة له في العلم ، يعني : ليست هذه الرواية بصحيحة ، إنما قالها بقياسه .

«5- والمستحل من عترتي ما حرم الله» ، قال في الترجمة : يحل من أولادي [ ص: 158 ] وقومي وقبيلتي وأهل قرابتي ما حرم الله فعله معهم; كالإيذاء ، وترك التعظيم ، والتقصير في أداء الحقوق ، واستحلال الحرام مطلقا ، سواء كان لحرام الله - تعالى وتقدس - ، أو لعترته صلى الله عليه وسلم ، أو غير ذلك ، سبب الاستحقاق الزجر والعقوبة . ولكنه أشد وأقبح هاهنا .

فالتخصيص لزيادة الاهتمام ، والتأكيد في التحريم ، والمبالغة في الوصية; لزيادة شرف أهل البيت ، واجتماع الحق والتعظيم والحرمة .

قال الطيبي : «من» في «من عترتي» للبيان ، يعني : من استحل منهم شيئا من المحرمات ، فالعتاب والعقاب فيه أشد; لأنه مع شرف الولدية والقرابة ارتكب محرما ، كما جاء في باب : نساء النبي صلى الله عليه وسلم : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب [الأحزاب : 30] .

التالي السابق


الخدمات العلمية