صفحة جزء
الأحاديث النبوية الدالة على أن الله قضى لأهل الجنة بالجنة وأهل النار بالنار وهم في عالم الذر

وعن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «خلق الله آدم حين خلقه ، فضرب كتفه اليمنى» .

قال في الترجمة : أي : ضرب بيد قدرته ، أو أمر ملكا بأن يضرب يمين آدم - عليه السلام - . انتهى .

وأقول : تأويل اليد واليمين بالقدرة خلاف ظاهر الكتاب والسنة .

والحق : إمرار مثل ذلك على ما جاء ، مع الإيمان به على مراد الله ، «فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر» . قال في القاموس : الذر : صغار النمل ، وفي بعض النسخ : «الدر» - بالدال المهملة - ، وهو يناسب البياض ، ولكن الأول أولى . والمراد به : بيان المقدار ، «وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم» جمع حممة ، وهي الفحم ، «فقال للذي في يمينه : إلى الجنة» ; أي : اذهبوا إليها .

[ ص: 173 ] أو خطاب للملائكة أن هذه الفرقة تذهب إلى الجنة وتدخلها ، أو اذهبوا بهم إليها ، «ولا أبالي» ; أي : لا مبالاة في الحكم بدخولهم الجنة من قبل أن يصدر عنهم الأعمال; لأني مالك متصرف مطلقا ، أفعل ما أشاء ، وأحكم ما أريد .

«وقال للذي في كتفه اليسرى : إلى النار» ; أي : اذهبوا إليها ، ونعوذ بالله منها ، «ولا أبالي» فيما حكمت وقضيت وقدرت في حقهم من دخول النار; لأن الملك ملكي ، والعباد عبيدي . رواه أحمد .

وفي الحديث إيماء إلى أنه لا يجب على الله شيء ، وأن القدر قد سبق ، والقضاء قد مضى ، وتعين الفرقة الناجية والطائفة الهالكة . اللهم اغفر لعبدك هذا ولا تبال ، فإنك ذو الإكرام والجمال .

وفي حديث أبي نضرة في قصة أبي عبد الله - رجل من الصحابة - يرفعه : ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله - عز وجل - قبض بيمينه قبضة ، وأخرى باليد الأخرى ، وقال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي» ، ولا أدري في أي القبضتين أنا . رواه أحمد .

قال في الترجمة : يعني : وإن بشرت من حضرة النبوة بسلامة الإيمان ودخول الجنان ، ولكن الله سبحانه غني عن العالمين ، قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء .

وقد قال : «هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي» ; أي : هذه الجماعة التي في اليمنى للجنة ، وتلك التي في اليسرى للنار ، ولست بمبال .

ولا يليق بأحد أن يقول : لم فعلت ؟ وكيف فعلت ؟ فهذا الخوف لا يزول من قلبي ، وهو الموجب لبكائي .

قال بعض العرفاء : إن الأمن والاطمئنان - وإن حصل لنا بمقتضى صدق وعده ، وبشارة الشارع ، ولكن خوف «لا أبالي» لا يضع الرجل من ساحة الصدر خارجة .

[ ص: 174 ] وعلى هذا يبتنى تمني الصحابة بـ «يا ليت كذا وكذا» مع وجود البشارة .

قال بعضهم : يا ليت كنت غنما يذبح ويؤكل ويخرج . وقال الآخر : يا ليت كنت كلأ ، أو ترابا .

وقال غيرهما : يا ليتني كنت شجرة تعضد . ولهذا الكلام تحقيق وبيان ذكرته في رسالة «تسلية المصاب» . انتهى .

قلت : وحاصل حديث الباب : أن المؤمن ينبغي له أن يكون إيمانه بين الخوف والرجاء ، وأن الخوف في العيش أجدى ، والرجاء عند الأجل أحرى .

فمتى هو في الحياة ، فعليه أن يخاف الله تعالى; فإن الخوف يمنع من معاصي الله ، وإذا قرب من الممات ، فعليه أن يرجو; فإن الرجاء في هذه الحالة أنفع ، كما في الحديث الصحيح : «أنا عند ظن عبدي بي» .

وقد صرح أهل العلم بوجوب حسن الظن بالله تعالى ، أو استحبابه عند الانتقال من دار الزوال إلى دار البقاء . اللهم ارزقنا .

وعن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار; أي : ليصلي عليها ، والجنازة - بكسر الجيم وفتحها - ، وقيل : الأول بمعنى الميت ، والآخر بمعنى سريره ، أو العكس . فقلت : يا رسول الله! طوبى لهذا; أي : طيب العيش له ، عصفور من عصافير أهل الجنة; أي : هو مثله من حيث إنه لا ذنب عليه ، وينزل في الجنة حيث شاء .

أطلقت عليه لفظة العصفور; لصغر سنه ، وحداثة عمره ، وحكمت عليه بالجنة; لكونه مغفورا له في اعتقادها ، لم يعمل السوء ، ولم يدركه .

فقال : «أوغير ذلك» روى لفظ «أو» - بفتح الواو وبسكونها - والمعنى - على الفتح - : أوقع كما قلت : إنه من أهل الجنة ؟ والحال أن الواقع خلاف ما قلت من أنه ليس من أهلها .

[ ص: 175 ] وأما على السكون - ، فالمعنى : أواقع ما تقولين ؟ أو الواقع غير ذلك ؟ ويمكن أن يكون «أو» بمعنى «بل» ; أي : بل الواقع غير ما قلت . والمقصود : أنه لا ينبغي الجزم بقوله من أهل الجنة .

ثم بين صلى الله عليه وسلم وجه ذلك ، فقال : «يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» .

قال في الترجمة : ظاهر هذا الحديث : أن الدخول في الجنة وفي النار ليس منوطا ومربوطا بالعمل الحسن والعمل السيئ ، بل بمحض تقدير القادر العزيز ، وقضاء القدير الكريم ، وأنه تعالى خلق بعض خلقه للجنة ، سواء عمل عملا صالحا ، أو لا ، وخلق بعضه للنار ، سواء عمل سوءا ، أو لم يعمل .

فهذا الصبي إن كان الله خلقه للنار ، فإنه يدخله ، وإن كان لم يعمل السوء ، بل لم يدركه ، فكيف جزمت بأنه من أهل الجنة ؟

هذا ، ولكن الذي علم من ضروريات الدين بنص الكتاب والسنة ، وإجماع أهل الدين عليه : هو أن أطفال المسلمين في الجنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية