صفحة جزء
قلت : هذا الحديث والحديث الذي قبل هذا أدلة على ثبوت القدر ، وفيه من الترهيب ما لا يقادر قدره ، ومن الترغيب ما لا يبلغ مداه .

وها أنا أقول : اللهم إنك أمرتني فعصيت ، ونهيتني فأتيت ، ولكن لا إله إلا الله ، وفقنا لما تحب وترضى ، وجنبنا عما تسخط عليه ، واجعل خاتمة أمورنا بالحسنى وزيادة .

وعن أبي موسى - رضي الله عنه ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات» ; أي : خطبنا ، ووعظنا ، وذكرنا ، واهتم بحالنا ، فقال : «إن الله تعالى لا ينام» ، ولا يغفل عن حال العباد وأحوال تمام الكائنات ، وهذه كلمة أولى .

والثانية قوله : «ولا ينبغي أن ينام» يعني : أن النوم محال عليه ، وبهذا تغاير الكلمة الأولى; لأن من عدم النوم لا يلزم عدم إمكانه .

والثالثة - «يخفض القسط ويرفعه» القسط - بكسر القاف وسكون السين - : الرزق ، فهو معنى قوله تعالى : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [الإسراء : 30] والقسط : الميزان .

[ ص: 183 ] قال في الترجمة : وهذا أظهر وأنسب بالحديث الآخر ، الذي فيه : «بيده الميزان يخفض ويرفع» .

ومعنى خفضه ورفعه : وزن أرزاق العباد النازلة من جناب خالق الأغوار والأنجاد ، ووزن أعمالهم الصاعدة إلى حضرة العزة ، وتعريف مقاديرها للملائكة الموكلة عليها .

وهذا إشارة إلى قوله سبحانه : كل يوم هو في شأن ، وإلى أنه سبحانه يحكم في خلقه بميزان العدل .

وعلى هذا تكون هذه الكلمة مؤكدة مقررة للكلمة الثانية ، وهي قوله : «لا ينبغي له أن ينام» ; لأن من كان تصرفه في كل لحظة ولمحة دائما مستمرا ، لا ينبغي له أن يغفل وينام .

وأما الكلمة الرابعة ، فهي قوله : «يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل» .

قال في الترجمة : يعني : لم يأت النهار إلى الآن ، ولم يقع فيه العمل ، وقد صعد عمل الليل ، وكذلك لم يجئ الليل إلى الحال ، وقد صعد عمل النهار .

وفي هذا مبالغة في مسارعة الملائكة الموكلين على أعمال العباد ، في امتثال الأمر وسرعة العروج ، بمحال العرض ، ومصاعد السماوات ، وقدرتهم على رفع الأعمال في الساعة الأدنى .

لأن الفرق بين اليوم والليلة ، ليس إلا آنا وجزءا لا يتجزأ .

أو المراد : أنه يكتب عمل النهار على حدة ، وعمل الليل على حدة ، ثم يعرضونها .

وهذا المعنى من العبارة أظهر ، ولكن الجودة والبلاغة هي في المعنى الأول أكثر ، وهذه الكلمة أيضا مؤكدة لقوله : «لا ينبغي له أن ينام» .

وأما الكلمة الخامسة ، فهي قوله : «حجابه النور» ; أي : أنوار جلاله وأشعة [ ص: 184 ] عظمته وكبريائه وجماله التي تدهش العقول والمشاعر ، وتحير النفوس والبصائر ، عند الملاحظة والمشاهدة .

وهذا الحجاب في الحقيقة راجع إلى الخلق; فإنهم هم المحجوبون ، لا الحق - تعالى شأنه - كالعين العمياء بالنسبة إلى الشمس .

ولا يقال له تعالى : إنه محجوب; لأن المحجوب هو مغلوب الحاجب ومقهوره .

بل يقال في حقه سبحانه : محتجب; لكونه مستترا بذاته المقدسة تعززا وتمنعا بالعظمة والجلال والكبرياء .

ويحتمل أن يكون المعنى : إنه سبحانه محتجب من جهة شدة الظهور ، وغاية البروز ، كما أن الشمس إذا تطلع طلوعا صافيا ، تكون العين مظلمة ملتمعة في محسوساتها .

وفي الحقيقة حجابه : هو أنوار الصفات ، والذات المقدسة لا ينبغي أن تشاهد إلا في حجب الصفات .

وليس إدراك الذات البحت بممكن أصلا . وكل ما يحصل به الإدراك ، ويصير مشهودا ، فهو نور الصفات ، والله سبحانه وراءه .


رجه انديشي بذيرائى فناست أنجه دراند يشرنا يدآن خداست     كجهه أور مرتبة ، دني وه فهميدسى برى
سمجهين بين جكو يا وراه الله ، دبى ، بهين

وإن سقط حجاب الصفات من البين ، وتجلت الذات البحت ، لاستهلكت الكائنات بتمامها ، واضمحلت في أحدية الذات ، كما قال : «لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ; لأن بصره سبحانه أحاط الكائنات كلها ، وبلغ إلى نهايتها .

والسبحات - بضمتين - : جمع سبحة - بالضم والسكون; كغرفة وغرفات . والمراد بها : نور الوجه .

قال في «القاموس» : سبحات وجه الله : أنواره .

[ ص: 185 ] وإنما قيل للأنوار : سبحة; لأن المشاهدين لها يسبحون ويذكرون الله بالتنزيه والتقديس; هيبة ودهشة من جلال ذاته وعظمتها - تعالى شأنه - . رواه مسلم .

وما أجل هذا الحديث في بيان صفة الله سبحانه ، وعلوه وقدسه !! .

ويزيده إيضاحا ، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : «يد الله ملأى ، لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض ، فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء ، وبيده الميزان يخفض ويرفع» متفق عليه .

وفي رواية لمسلم : «يمين الله ملأى» . . قال ابن نمير : ملآن سحاء ، لا يغيضها شيء ، الليل والنهار .

وهذا الحديث من أحاديث الصفات ، وفيه ذكر اليد ، واليمين ، فيلزم الإيمان بظاهره ، ويجب إمراره على لفظه ، من غير تأويل ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تشبيه ، ولا تمثيل .

وعن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : «يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك» .

ظاهره : أن المراد قلبه الشريف ، ولكنه في الحقيقة طلب الدعاء للأمة; فإنه مأمون العاقبة ، محفوظ القلب . وكذلك في الأدعية الأخرى .

والمقصود : تعليم الأمة ، وتلقينها على طريق التعريض والكناية ، ولذا قال أنس : فقلت : يا نبي الله! آمنا بك وبما جئت به . من الكتاب والسنة . فهل تخاف علينا ؟ أي : زوال الدين والإيمان ، وتطرق الفتور والنقصان إليه ، قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله ، يقلبها كيف يشاء» ، ويتصرف فيها بما يريد . رواه الترمذي ، وابن ماجه .

الحديث دليل على ثبوت القضاء والقدر ، وهو المراد هنا .

وفيه دلالة على ثبوت صفة الإصبعين له تعالى ، وعلى هذا ، فهو من أحاديث الصفات ، وحكم إجرائها على ظاهرها ، مع وجوب الإيمان بها من غير تعطيل [ ص: 186 ] ولا تشبيه ، ولا تأويل ولا تمثيل ولا تكييف كما هو طريق السلف .

وأما الخلف ، فيؤولونها ، ولا وجه له ، فإن التأويل باب واسع ، يدخل فيه كل ذي رأي ، وعقل ، وقياس ، واجتهاد . وأي دليل على قبول التأويل لأحد وعدم قبوله من آخر ؟

فالحق عدم الخوض في ذلك ، وتفويضه إلى علم الله والإيمان به .

وفي هذا الباب حديث ابن عمر مرفوعا : «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفه كيف يشاء» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم . وفي حديث أبي موسى يرفعه : «مثل القلب كريشة بأرض فلاة ، تقلبها الرياح ظهرا لبطن» رواه أحمد .

يعني : أن حال القلوب كذلك أيضا ، فإن عروض الخواطر به ، وحدوث الحوادث له ، من قضاء الله وقدره .

والفلاة» : المفازة الخالية من النبات . ومعنى «ظهرا لبطن» : أنه كل ساعة يقلبها على صفة .

وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يديه كتابان ، فقال : «أتدرون ما هذان الكتابان ، وماذا مرقوم فيهما ؟» .

قال في الترجمة : قال أهل التأويل : هذا تمثيل وتصوير وتعبير عن المعنى بالصورة ، ومبالغة في تحقيقه والتيقن به .

والمتكلم إذا أراد أن يحقق قوله ، ويفهمه غيره ، ويظهر المعنى الدقيق الخفي لمشاهدة السامع ، يصوره بالصورة الظاهرة ، ويشير إليه كالإشارة الحسية إلى المحسوس ، وإن لم يكن في الخارج وعالم الحس .

فلما كشفت على حضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم حقيقة هذا الأمر ، واطلع عليها ، [ ص: 187 ] بحيث لم يبق فيها شك ولا شبهة ، مثل وصور المعنى الحاصل في قلبه الشريف ، كأنه في يديه ، مع أنه ليس في الخارج كتاب ولا مكتوب .

وقال أهل الباطن وأرباب المكاشفة : إن وجود الكتاب حق ، وهو محمول على الحقيقة ، من دون شائبة المجاز والتأويل .

قال الإمام حجة الإسلام في «كيمياء السعادة» : امتياز الخواص من العوام بشيئين: الأول : أن ما يحصل للعوام من العلوم بالكسب والتعلم ، فهو يحصل لهم من غير تكسب وتعلم من عند الله العليم الحكيم ، ويقال له «العلم اللدني» ، كما قال سبحانه : وعلمناه من لدنا علما [الكهف : 65] .

والثاني : أن كل ما يراه العامة في المنام يراه الخواص في اليقظة ، وحكايات المشايخ في هذا الباب كثيرة جدا .

وإذا كانت هذه الحالة ، وتلك الرتبة ، حاصلة لخواص أمته صلى الله عليه وسلم ، فكيف بسيد المرسلين .

بل ظاهر الحديث : أنه صلى الله عليه وسلم أدى هذين الكتابين للصحابة أيضا ، ولكن لم يعلموا بما كان فيهما من المضمون .

وقال المشايخ : من لا يعتقد ذلك ، فهو ليس بمؤمن بحقيقة النبوة . انتهى .

قلت : رحم الله صاحب الترجمة ، فقد أنصف في هذا المقام بترك التأويل وإجراء الحديث على ظاهره ، وإمراره على لفظه ومعناه المتبادر منه إلى الذهن القويم ، والقلب السليم ، والطبع المستقيم .

ولو سلك - رحمه الله - هذا المسلك في جميع أحاديث الصفات وآياتها ، لكان أصوب قيلا ، وأحسن مقيلا .

ولا ريب أن سياق الحديث وسباقه يدلان دلالة واضحة على وجود الكتابين ، وعلى أن ذلك ليس بتمثيل .

[ ص: 188 ] قلنا : لا يا رسول الله لا ندري ما في هذين الكتابين «إلا أن تخبرنا» ، وهذا التماس منه صلى الله عليه وسلم ليخبرهم بحالهما وبما فيهما ، «فقال للذي في يده اليمنى» ; أي : في شأنه : «هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم» للتعيين والتمييز ، ثم أجمل على آخرهم» كما هو عادة أهل الحساب يكتبون العدد المجمل بعد تفصيل الأعداد; ليعلم أنها كذا في المقدار ، فلا يزاد فيهما بعد هذه المبالغة في الضبط والتعيين والتشخيص لئلا يدخل فيهم من ليس مكتوبا منهم ، «ولا ينقص منهم» ; أي : لئلا يخرج منهم من كتب فيهم «أبدا» ; أي : إلى أبد الآباد وآخر الآماد .

ثم قال للذي في شماله : هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا» . تقدم شرح مثل هذه العبارة .

وهذا مقام المستجير العائذ بالله من عقابه وعذابه في ناره ، والسائل منه سبحانه أن يكتبه في كتاب الجنة ، برحمته وكرمه ، اللهم آمين .

فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ عنه ؟» بصيغة المجهول; أي : إذا كان المدار على كتابة الأزل ، فأي فائدة في اكتساب العمل؟ فقال : سددوا» ; أي : اجعلوا أعمالكم مستقيمة على طريق الحق والصواب ، وقاربوا» ; أي : التمسوا قربة الله ، وأطيعوا له . قاله الطيبي .

التالي السابق


الخدمات العلمية