صفحة جزء
بيعة الرضوان:

وقال تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [الفتح: 18].

وهي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وهذه الشجرة هي سمرة، وقيل: سدرة.

وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشا، ولا يفروا، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير.

والآية فيها دلالة على فضل هؤلاء الصحابة الكرام البررة، وإخبار برضاء الله عنهم، وما بعد الرضاء شيء.

[ ص: 374 ] فمن سخط عليهم بعد هذا الرضاء من الله، سخط الله عليه، وأعد له عذابا أليما فعلم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء فأنزل السكينة أي: الطمأنينة وسكون النفس والأمن. وقيل: الصبر عليهم .

قال في «فتح البيان» : الآية تشير إلى أن أهل «بيعة الرضوان» من أهل الجنة؛ لأن رضوان الله موجب لدخولها. والأحاديث الصحيحة تدل لذلك. انتهى.

فمن حكم عليهم بكونهم في النار، ومعاذ الله عنه، فهو نفسه في النار بهذا الإنكار.

وقد ابتلي بهذا فرقة الرفض والتشنيع، لحاهم الله وأبادهم. وأثابهم فتحا قريبا هو فتح «خيبر» عند انصرافهم من «الحديبية». وقيل: فتح مكة، والأول أولى.

فيها الإخبار بحلول الرضاء، ونزول السكينة، وإثابة الفتح. ولا أعظم من ذلك نعمة وإحسانا وإكراما وإجلالا.

وقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه من المؤمنين، وهم جميع الصحابة؛ حملا لها على العموم، وهو الأولى عند أهل الفهوم أشداء على الكفار أي: غلاظ عليهم، كما يغلظ الأسد على فريسته. وهو جمع شديد، لا تأخذهم بهم رأفة؛ لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم، فلا يرحمونهم، ولا ينبغي لهم الرحم على أعداء الله وأعداء رسوله رحماء بينهم [الفتح: 29] أي: متوادون متعاطفون كالوالد مع الولد. وهو جمع «رحيم».

والمعنى: أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم الرحمة والرأفة. ونحوه قوله تعالى: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [المائدة: 54]

قال الحسن: بلغ من تشديدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم وتمسها، ومن أبدانهم أن تمس من أبدانهم وتلزق بها.

[ ص: 375 ] وبلغ من ترحمهم فيما بينهم: أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه.

ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدد وهذا التعطف، فيشددوا على ما ليس من دينهم، ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام، متعطفين بالبر والصلة، وكف الأذى، والاحتمال منهم تراهم ركعا سجدا أي: تشاهدهم وتبصرهم حال كونهم راكعين ساجدين.

أخبر سبحانه عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها يبتغون فضلا من الله ورضوانا أي: يطلبون ثواب الله لهم ورضاه عنهم.

وفيه لطيفة أن المخلص بعمله لله، يطلب أجره من الله، والمرائي بعمله لا يبتغي له أجرا.

وذكر بعض أهل العلم في الآية والذين معه : أبو بكر الصديق أشداء على الكفار : عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحماء بينهم : عثمان بن عفان تراهم ركعا سجدا : علي بن أبي طالب يبتغون فضلا من الله ورضوانا : بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

سيماهم في وجوههم من أثر السجود أي: تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجدة في الصلاة؛ لكثرة التعبد بالليل والنهار.

وقال الضحاك: إذا سهر الرجل، أصبح مصفرا، فجعل هذا هو «السيما». وقال الزهري: مواضع السجود أشد وجوههم بياضا. وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع.

وبالأول -أعني: كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود- قال سعيد بن جبير، ومالك. وقال ابن جريج: هو الوقار.

[ ص: 376 ] وقال الحسن: إذا رأيتهم رأيتهم مرضى، وما هم بمرضى. وقيل: هو البهاء في الوجه، وظهور الأنوار عليه. وبه قال سفيان الثوري.

وقال ابن عباس: أما إنه ليس الذي ترونه، ولكنه سيما الإسلام، وسمته، وخشوعه.

وعنه، قال: هو السمت الحسن.

وعن أبي بن كعب يرفعه: «هو النور يوم القيامة» أخرجه الطبراني في «الأوسط» و«الصغير» وابن مردويه، قال السيوطي: بسند حسن.

وعن ابن عباس، قال: بياض يغشى وجوههم يوم القيامة.

قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس.

قال البقاعي: ولا يظن من السيماء ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته؛ فإن ذلك من سيماء الخوارج.

وعن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود» ذكره الخطيب، ولينظر في سنده.

قلت: وقد شاهدت في «الهند» بعض الناس على جبهتهم أثر السجود إشعارا بأنهم كثيرو الصلوات، شديدو العبادات، وذلك هو الرياء، والرياء شرك خفي ذلك : أي: ما تقدم من هذه الصفات الجليلة مثلهم أي: وصفهم العجيب الشأن الذي وصفوا به في التوراة ومثلهم الذي وصفوا به في الإنجيل تكرير ذكر المثل لزيادة تقريره، وللتنبيه على غرابته، وأنه جار مجرى الأمثال في الغرابة.

قال ابن عباس: أي: نعتهم مكتوب فيهما، قبل أن يخلق الله السموات والأرض كزرع أخرج شطأه كلام مستأنف؛ أي: هم كزرع.

[ ص: 377 ] وقيل: هو تفسير لذلك، على أنه إشارة مبهمة، لم يرد به ما تقدم من الأوصاف.

وقيل: هو خبر لقوله: ومثلهم في الإنجيل أي: ومثلهم في الإنجيل كزرع.

ومعنى شطأه : طرفه، يقال: شطا الزرع إذا خرج، وقيل: شطأه: نباته. وقيل: الشطء: سوى السنبل. وقيل: هو السنبل فآزره أي: قواه، وشده، وأعانه.

قيل: المعنى: إن الشطء قوى الزرع. وقيل: الزرع قوى الشطء.

قال النسفي: وهو أنسب؛ فإن العادة أن الأصل يتقوى بفروعه، فهي تعينه وتقويه فاستغلظ صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان دقيقا، فهو من باب «استحجر الطين» أو المراد: المبالغة في الغلظة، كما في «استعصم» ونحوه فاستوى على سوقه أي: فاستقام على أعواده، والسوق جمع ساق يعجب الزراع أي: يعجب هذا الزرع زراعه؛ لقوته، وحسن منظره. وهنا تم المثل، قاله السمين.

قلت: وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم يكونون في الابتداء قليلا، ثم يزدادون ويكثرون ويقوون؛ كالزرع؛ فإنه يكون في الابتداء ضعيفا، ثم يقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه.

قال قتادة: أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- في الإنجيل، مكتوب فيه: «إنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر».

وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي، وهذا ونحوه مما تقدم ليس بتفسير للقرآن، بل من لطائف الكلام.

وعن بعض الصحابة: أنه لما قرأ هذه الآية، قال: تم الزرع، وقد دنا حصاده.

[ ص: 378 ] ثم ذكر سبحانه علة تكثيره لأصحاب نبيه -صلى الله عليه وسلم- وتقويته لهم وتشبيههم بالزرع، فقال: ليغيظ بهم الكفار أي: إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكفار.

قيل: هي قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأهل مكة بعدما أسلم: لا يعبد الله سرا بعد اليوم.

قال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد أصابته هذه الآية.

قلت: أصبحت الرافضة كلهم في العرب والعجم، وفي قلوبهم وبواطنهم غيظ شديد، وغصة عظيمة على الصحابة، وشجى في حلوقهم. فالآية شملتهم، وكفى بها دليلا على كفرهم؛ لأن الغيظ بهم، والسخط عليهم -بالسب وإطلاق اللسان بمساويهم المكذوبة عليهم- من أمارات الكفر والطغيان.

وهذه الأمارة وجدت فيهم وجدانا صحيحا، نطقت به كتبهم بذكر مطاعن الصحابة، وفاهت به ألسنتهم بالسب والطعن والقدح، فهم أجهل خلق الله بحقوق السلف، وأعظمهم عنادا بهم، ونعوذ بالله من ذلك.

وقد وردت أحاديث كثيرة في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص والعموم، وسيأتي بعضها في هذا الباب.

وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما أي: وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد -صلى الله عليه وسلم- وهم جميع أصحابه من المهاجرين والأنصار والعترة وأهل البيت أن يغفر ذنوبهم ويجزل أجرهم؛ بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة، وأعظم منة، و«من» هنا لبيان الجنس، لا للتبعيض.

التالي السابق


الخدمات العلمية