صفحة جزء
منقبة أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينحي مخاط أسامة؛ أي: يزيل ما كان يخرج من أنفه من الماء. والمخاط -بضم الميم- ما يسيل من الأنف، كذا في «اللمعات». قالت عائشة : دعني حتى أنا الذي أفعل. قال: « يا عائشة ! أحبيه؛ فإني أحبه » رواه الترمذي .

فيه أنه كان -رضي الله عنه- محبوبا إليه -صلى الله عليه وسلم-، وماذا يقال فيمن يكون حبيبا لحبيب الله؟!

قال في «الترجمة»: في معنى الحديث: إن كنت لا تحبيه بالطبع، فأحبيه لأجل أني أحبه، ومحبوب المحبوب محبوب. وفي الحقيقة، كمال المحبة أن يتجاوز الحب من المحبوب إلى متعلقيه، ويسري فيهم في كل شيء من أصحابه، ودياره.


ومن مذهبي حب الديار لأهلها وللناس فيما يعشقون مذاهب

انتهى.

قلت: ومن هذا الوادي حب أهل الحديث، ومتبعي السنة؛ فإن المحبة معهم شعبة من محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهم خاصته في الدنيا والدين.


أيا حاملي علم المدينة إنكم     إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، قال: كنت جالسا، إذ جاء علي والعباس يستأذنان، فقالا لأسامة : استأذن لنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: [ ص: 468 ] يا رسول الله، علي والعباس يستأذنان، فقال: «أتدري ما جاء بهما؟»، قلت: لا، قال: «لكني أدري، ائذن لهما»، فدخلا، فقالا: يا رسول الله! جئناك نسألك: أي أهلك أحب إليك؟ قال: «فاطمة بنت محمد»، قالا: ما جئناك نسألك عن أهلك؛ أي: من أولادك وأزواجك، بل نسألك عن أقاربك ومتعلقيك، قال: «أحب أهلي إلي من قد أنعم الله عليه، وأنعمت عليه: أسامة بن زيد»، قالا: ثم من؟ قال: «ثم علي بن أبي طالب»، فقال العباس: يا رسول الله! جعلت عمك آخرهم! قال: «إن عليا سبقك بالهجرة رواه الترمذي .

قال في «الترجمة»: إنعام النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن بالنسبة إلى زيد، ونسبه هنا إلى أسامة؛ لأن الإنعام على الأب يستلزم الإنعام على الابن. فبهذا الاعتبار جعل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة مصداق الآية، وأنزلها عليه.

قلت: الأصل يسري في الفرع.

قال: وكان إسلام العباس بعد وقعة «بدر»، وقيل: كان قد أسلم بمكة، ولكن يستره من المشركين، ولم يهاجر إلا بعد ذلك.

قال: هذا الحديث إن لم يلحظ فيه تعدد الوجوه، كان تقدم أسامة على علي -عليه السلام - في الأحبية مشكلا. فلا بد في هذا المقام من اعتبار الوجوه، وتعدد الحيثيات. انتهى.

وعن عبد الله بن عمر : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بعثا، وأمر عليهم أسامة بن زيد؛ أي: جعله أميرا عليهم، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن كنتم تطعنون في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه ؛ أي: زيد بن حارثة في غزوة « مؤتة » من قبل. وفي رواية للنسائي عن عائشة : لم يرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- زيدا في عسكر إلا أمره عليهم، هذا معناها، «وايم الله! إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب [ ص: 469 ] الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده» متفق عليه.

وفي رواية لمسلم نحوه، وفي آخر: « أوصيكم به، فإنه من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا ».

قال في «الترجمة»: لما استشهد زيد في غزوة « مؤتة »، أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة ليذهب وينتقم لأبيه منهم، وكان في هذه السرية المهاجرون والأنصار، منهم أبو بكر وعمر . فتكلم في ذلك قوم، ومرض النبي -صلى الله عليه وسلم- في أثناء هذا الحال، وعرض له صداع في الرأس. فلما سمع مقولة الناس هذه، خرج وصعد على المنبر وخطب، وقال: «أيها الناس!. إلخ». وغلب عليه -صلى الله عليه وسلم- وجع الرأس، ولم يتم الأمر، وتوفي إلى رحمة الله تعالى، وجواره المقدس.

وفي الحديث دليل على جواز إمارة المولى، وتولية الصغار على الكبار، والمفضول على الفاضل لأجل المصلحة . انتهى.

قلت: ومن هنا أن الموالي الكثيرة صاروا ولاة وحكاما، وأولي أمر من جهة الخلفاء على البلاد، مع وجود كثير من أهل العلم والفضل فيها، ولفظ القرآن الكريم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم يشمل جميع الأمراء، سواء كانوا أحرارا أو موالي، وعبيدا أو مماليك.

ويزيده إيضاحا حديث أم الحصين، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « إن أمر عليكم عبد مجدع، يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له، وأطيعوا » رواه مسلم.

وفي حديث أنس يرفعه، قال: « اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة » رواه البخاري .

وفي الحديث دليل على فضيلة أسامة وأبيه، وأنهما كانا أحب الناس إليه -صلى الله عليه وسلم- وخليقا للإمارة، والله أعلم.

[ ص: 470 ] وفي فضائله أحاديث أخرى، منها: حديث أسامة عنه -صلى الله عليه وسلم-: كان يأخذه والحسن فيقول: « اللهم أحبهما، فإني أحبهما ».

وفي رواية: كان يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما؛ فإني أرحمهما رواه البخاري .

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمسمائة، وفرض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف، فقال لأبيه: لم فضلت أسامة علي؟ فوالله ما سبقني إلى مشهد، قال: لأن زيدا كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك، فآثرت حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حبي. رواه الترمذي . الحب - بالكسر، وقد يضم -: المحبوب.

وانظر في عدل عمر في هذا المقام؛ فإنه حقيقي لا تقديري، وأبصر إنصافه وحفظه لرتب أحباء النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا كان هذا معاملته مع أسامة، وهو مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن مولاه، فما ظنك بمن هو في أعلى درجات القرب منه -صلى الله عليه وسلم- كفاطمة، وابنيها، وعلي؟! دمر الله على أعداء الإسلام، من الروافض وغيرهم، ممن يظن أن الشيخين غصبا حق أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو كما هنا عشاق قرابة الرسول ومواليه. فأين هذا من ذاك؟ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين [يوسف: 52].

التالي السابق


الخدمات العلمية