صفحة جزء
مناقب أهل البيت الكرام -عليهم السلام-

عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه-، قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما فينا خطيبا، بماء يدعى: خما، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: «أما بعد! ألا أيها الناس! إنما أنا بشر، يوشك أن يأتني رسول ربي يعني: [ ص: 474 ] ملك الموت «فأجيب»، وكان أجله -صلى الله عليه وسلم- في الواقع قريبا، وكانت هذه الخطبة بذي الحجة عند الرجوع من حجة الوداع، واتفق الوفاة في شهر ربيع الأول، «وأنا تارك فيكم الثقلين» الثقل: كل شيء نفيس مصون، ومتاع المسافر، سميا بهما؛ لأن الأخذ بهما، والعمل بهما ثقيل، أولهما: «كتاب الله، فيه الهدى والنور»؛ أي: طريق إلى سعادة الدنيا والآخرة، وبيان أعمال يتجلى بها سبيل الوصول إلى منزل المقصود، «فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به» الأمر يفيد الوجوب، والمراد بالكتاب: القرآن مع السنة؛ لأن في الكتاب وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . فيه أيضا أمر بإطاعة الرسول في غير موضع. ولا يستقيم العمل بالكتاب إلا مع السنة، فإنها مثله أو أكثر. فلا يقال: ليس في هذا الحديث ذكر الحديث، إنما فيه الإرشاد إلى العمل بالقرآن فقط. فهذا من سوء فهم من فهم. فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ويدخل فيه علم السنة والعمل بها دخولا أوليا.

ثم قال: « وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي » كرر هذه الكلمة للمبالغة والتأكيد، وقد تقدم معنى أهل البيت، وحمله على جميع تلك المعاني صحيح، لا سيما على المعنى الأخير، وهو محبتهم وتعظيمهم، ورعاية حقوقهم وآدابهم.

قال في «الترجمة»: وهذه إشارة إلى أخذ السنة، كما أن الأول إشارة إلى العمل بالكتاب، وبهذا المعنى جميع المؤمنين مطيعون لأهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قال الحكيم الترمذي -رحمه الله-: البيت بيتان: بيت البدن، وبيت الذكر. وأهل هذين البيتين سبب عمران العالم ظاهرا وباطنا، وصلاح ديان الدنيا والدين. فسكنة بيت الجسم: أهله -صلى الله عليه وسلم- وعياله وأولاده الصورية، وسكنة بيت الذكر: العلماء الأتقياء، الذين هم أولاده المعنوية، وهم سبب عمارة دار الدين، وأساس بناء الشريعة. [ ص: 475 ] ويصدق في شأنهم مثل سفينة نوح، ومن كان جامعا بين الصفتين: نسبة الدين، ونسبة الطين، كان أتم وأكمل من غيره؛ كبعض الأولياء، الجامع بين العلم والسيادة والولاية. ومع هذا رعاية الأدب والتعظيم والتقديم، وأداء الحقوق نظرا إلى نسبة الطين واجب لازم. هكذا قال الحكيم في «نوادر الأصول». انتهى كلام الترجمة.

وأقول: حمل هذه الجملة على الإشارة إلى أخذ السنة يبعد جدا، بل السنة والعمل بها داخلة في الجملة الأولى وهي قوله: «فخذوا بكتاب الله» كما تقدم تقريره.

والمراد بهذه الجملة الثانية: عترته -صلى الله عليه وسلم-، وأولاده وأزواجه، لا ريب في ذلك ولا شك. والمراد بالتذكير فيهم: حفظ رتبتهم في الإسلام، وتعظيمهم وحبهم في الدين، وصون عظيم عزهم في الأمة، وتقديمهم على غيرهم في المجلس والكلام والخطاب والمشي والقعود والقيام وبذل الأموال لهم، ونصرتهم في مقابلة أعدائهم، والتمسك بهم إن كانوا أهل العلم والتقوى.

وقول الحكيم : يصدق مثل حديث السفينة على العلماء من غير أهل البيت، أبعد من القول، وأشبه بالتحريف من التأويل؛ لأن الحديث ورد في العترة خاصة، ولا محمل له إلا هم. ويكفي العلماء الأتقياء كونهم عالمين متقين لله، وليست فضيلة العلم والتقوى بأقل من فضيلة أخرى.

وفي رواية: «كتاب الله هو حبل الله» الحبل في اللغة: السبب، والعهد، والأمان، والوصلة. والمعنى: أن القرآن العظيم عهد الله وأمانه، من تمسك به، أمن من عذابه تعالى، وأنه سبب الوصلة والقربة بجناب الحق، وسبب الترقي إلى معارج [ ص: 476 ] القدس «من اتبعه كان على الهدى»؛ أي: من عمل بما فيه، فهو مهتد إلى الصراط المستقيم، والسبيل السواء، «ومن تركه، كان على الضلالة»؛ أي: من لم يعمل به وبالسنة التي فيه الأمر باتباعها، كان على ضلالة واضحة. ولا أنه لا يتمسك بهما إلا من آمن إيمانا خالصا، وتيقن باليوم الآخر، وأحب الله ورسوله، وهم أهل السنة وأصحاب الحديث.

وأما مقلدة الآراء والمذاهب، فهم بمعزل عن اتباع القرآن والحديث، وصنيعهم هذا ليس بخاف على أحد ممن مارسهم، ومارس فتاواهم. وكذلك جميع الفرق الباطلة، والمبتدعة الضالة، تاركون لهما تركا بينا. وما أدري ما الفائدة في إبقاء القرآن في الدنيا إلى قرب قيام الساعة، إذا لم يكن المقصود منه: العمل به، وبالسنة الصحيحة؟ ولا أدري ما جواب القوم غدا يوم الحساب إذا سئلوا عن ترك العمل بهما، مع وجودهما بين أظهرهم؟ وما التأويل لهم في العكوف على كتب الفتاوى، والرأي، والقياس، والاجتهاد، مع قدرتهم على دراستهما، والإفتاء والقضاء بهما في كل شيء؟! أليس ذلك كله من محدثات الأمور، وهي شرها على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ وقد قال: وإياكم ومحدثات الأمور، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار رواه مسلم.

هذا الحديث فيه فضيلة أهل البيت، وبيان عظم حقهم في الإسلام، وأنهم قرين القرآن في التعظيم والإكرام، وليس بعد هذا البيان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيان، ولا قرية بعد عبادان.

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «يا أيها الناس! إني تركت فيكم [ ص: 477 ] ما إن أخذتم به لن تضلوا فيه إخبار بعدم ضلال من أخذ بالكتاب والسنة والعترة، وهو نص في فضيلتهما.

الخطبة به في آخر أيام العمر بعرفة، دليل على مزيد الاهتمام بشأنه، وتمام الحث عليه «كتاب الله، وعترتي» فسرها بقوله الشريف: «أهل بيتي» روي معا -بالنصب، والرفع- على تقدير هم أهل بيتي.

قال في «الترجمة»: عترة الرجل: قومه، وقرابته، والأدنون منه. أشار هنا بأن المراد بالعترة أخص القوم والأقرباء، وهم أولاده -صلى الله عليه وسلم- وذريته الشريفة.

قال في «الترجمة»: عترة الرجل: قومه، وقرابته، والأدنون منه. أشار هنا بأن المراد بالعترة أخص القوم والأقرباء، وهم أولاده وذريته الشريفة. رواه الترمذي .

ويا لها من فضيلة لا تساويها فضيلة! قرنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتاب الله، وأرشد إلى الأخذ بهم. والمراد بهم: من هو على طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسمته ودله، وهديه. ولا يستقيم المقارنة بكتاب الله، إلا إذا كانوا موافقين له، عاملين به. فمعيار الأخذ بالعترة: اتفاقهم بالقرآن، في كل نقير وقطمير، وما أبلغ هذا البيان في إيضاح المراد!! والكناية أبلغ من التصريح، نعم كلام الملوك ملوك الكلام!

وأما من عاد منهم مبتدعا في الدين، فالحديث لا يشمله؛ لعدم المقارنة، هذا أوضح من كل واضح، لا يخفى إلا على الأعمى. وكم من رجال ينسبونهم إليه -صلى الله عليه وسلم- في اتحاد الطين، قد خرجوا من نسبة الدين، ودخلوا في عداد المنتحلين والغالين والجاهلين، وسلكوا سبيل المبتدعين المشركين؛ كالسادة الرافضة، والخارجة، والمبتدعة، ونحوهم، فليسوا هؤلاء مصداق هذا الحديث أصلا، وإن صحت نسبتهم الطينية إليه -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد فارقوه في النسبة الدينية.

[ ص: 478 ] فالحاصل: أن نفس هذا الحديث يخرج الخارجين عن الطريقة المثلى المأثورة، التي جعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمارة للفرقة الناجية في حديث الافتراق، وقال: هم ما أنا عليه وأصحابي». فمن كان من أهل البيت على هذه الشيمة الشريفة، فهو المستحق لما في الحديث. ومن لم يكن كذلك، فليس أهلا بما هنالك، والله أعلم.

قال في «الإدراك لتخريج أحاديث رد الإشراك»: قلت: عترة الرجل: أهل بيته، ورهطه الأدنون. ولاستعمالهم العترة على أنحاء كثيرة، بينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «أهل بيتي»؛ ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين، وأزواجه. والمراد بالأخذ بهم: التمسك بمحبتهم، ومحافظة حرمتهم، والعمل بروايتهم، والاعتماد على مقالتهم، كما صنع أهل الحديث، كثر الله سوادهم.

وهو لا ينافي أخذ العلم من غيرهم؛ لعموم قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [الأنبياء: 7]. انتهى.

«والذكر»: اسم من أسماء القرآن، والمعنى: اسألوا أهل القرآن والسنة، من كانوا، وأينما كانوا. والله أعلم.

وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض»؛ ليضربوا به أيديهم، ويصعدوا على سماء القدس، فإنه عهد وأمان للعباد كلهم، «وعترتي أهل بيتي» تفسير لها من جناب الرسالة، وحضرة النبوة. وفي الحكم بأعظمية أحدهما من الآخر تشريف لهما، وأي تشريف!

وفي كتاب «ذخيرة الخير فيما سأل عنه أبا قيس وأبا عمير» كلام بسيط على معنى هذين اللفظين، وهو أحسن كتاب جمع في هذا الباب، اشتمل على مقاصد [ ص: 479 ] نفيسة، لخص منه ما يتعلق بهذا الحديث في كتاب «هداية السائل إلى أدلة المسائل»، فراجعه.

«ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض»، وهذا هو معنى مقارنتهم بالكتاب، وفيه بيان كمال قربهم واتحادهم واتفاقهم مع القرآن، والمرء مع من أحب، «فانظروا كيف تخلفوني فيها»؛ أي: في الكتاب والعترة؛ أي: كيف تعملون بهما، وتمسكون بهديهما بعدي.

والحديث يدل على أن من أحسن المعاملة معهما، فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبحان الله ما هذه الرتبة! رزقنا الله ووفقنا بذلك بمنه وكرمه.

والتجربة شاهدة بأنه ليس في الدنيا من خلفهم خلافة حسنة، كما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عصابة السنة وأهل الحديث. بخلاف الخوارج، فإنهم خذلوا العترة، وكذلك الروافض، فإنهم نافقوهم مع ادعاء المحبة والتعظيم، وقد كذب فعلهم قولهم. رواه الترمذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية