صفحة جزء
منقبة أهل الحديث النبوي -رضي الله عنهم-

تقدمت جملة صالحة من أحاديث هذا الباب، في باب: الاعتصام بالكتاب والسنة.

الذي ينبغي تحريره هنا إيجازا هو: أحاديث عديدة يسيرة. منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تفترق [ ص: 501 ] أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي رواه الترمذي . وفي رواية: «وهي للجماعة»، وفي أخرى: «ما أنا عليه اليوم»، وهذه الروايات دلت دلالة واضحة، تامة كاملة، على أن المراد بهذه الفرقة الناجية، هي جماعة السنة وعصابة الحديث؛ لأن سياقها لا يصدق إلا على هذه الجماعة من بين جميع فرق الإسلام. فإنها ليست فرقة من فرقه إلا وفيها بدع من المحدثات، وأمور ليس عليها أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما خلا جماعة المحدثين، فإنهم في دينهم وعلمهم وعملهم وسمتهم ودلهم وهديهم على طريقة السلف الصالحين، الذين هم عبارة عن عصابة الصحابة والتابعين لهم بالإحسان.

ومن زعم أنه على سبيل الصحابة، فكاد أن يكذب فعله قوله، ويرده مذهبه المدون في أسفار أهل نحلته من مقلدة المذاهب، ومبتدعة المشارب.

ومنها: حديث بلال بن حارث المزني يرفعه: من أحيا سنة من سنني قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة... الحديث رواه ابن ماجه، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده. ومعلوم أن مصداق هذا الحديث في هذا العصر، وفي الأعصار المتقدمة عليه، هم أصحاب الحديث لا غير، فإن كل واحد منهم سعى في وقته في إحياء السنن المائتة [ما] بلغت إليه قدرتهم. وغيرهم ابتدع بدعة في الدين، فلا تخلو فرقة من فرق الإسلام من بدعة من البدع، إلا فرقة التوحيد، وجماعة الحديث؛ فإن طريقتهم خالية عنها، وهم مشمرون عن ساق الجد في إحياء السنن.

ومنها: حديث عمرو بن عوف مرفوعا: إن الدين بدأ غريبا، وسيعود كما [ ص: 502 ] بدأ، فطوبى للغرباء»؛ أي: أولا وآخرا، «وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي رواه الترمذي .

وهذا الإصلاح لما أفسد، لم يأت إلا من فرقة الحديث وأهل السنة، وهم على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في ابتداء الإسلام، فاتفقوا معهم في الغربة، وهذه الصفة لا توجد إلا فيهم. وهم في كل زمان غرباء في الدين، وغيرهم في دعة وترف من جهة إيثار الرأي والبدع والقياس والإفساد في الإسلام.

ومنها: حديث ابن عمر يرفعه: إن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة، ومن شذ، شذ في النار رواه الترمذي .

فيه: أن أهل الحديث هم على هداية، في فرق هم على ضلالة، وأن يد الله عليهم. ولو لم تكن هذه الجماعة في الدنيا، لصدق أن الأمة اجتمعت على ضلالة. ولكن الله صانها عن ذلك؛ حماية لدينه، وصيانة للإسلام، ولله الحمد.

والشاذ منهم محكوم عليه بكونه في النار، وهم الفرق الباطلة، والطوائف الضالة. غير أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية بنص الشارع عليه السلام.

ومثله حديث آخر عنه مرفوعا: اتبعوا السواد الأعظم؛ فإنه من شذ، شذ في النار رواه ابن ماجه من حديث أنس. والسواد الأعظم يعبر به عن الجماعة الكبيرة، والمراد: ما عليه الصحابة. فمصداق هذا الحديث هم أهل الحديث، وهم الذين يقال لهم: أهل السنة والجماعة. فمن لم يعلم السنة، ولم يعمل بها، فليس من هذه الجماعة، وإن ادعى أنه سني، كيف ولا يكون المرء سنيا إلا إذا تمسك بالسنة؟ ومن تمسك بغيرها من [ ص: 503 ] الرأي والقياس والتقليد، فإنه أهل الرأي وغيره، لا أهل السنة. وهذا أوضح من كل واضح، ولا يلتبس على جاهل، فضلا عن عالم.

ومنها: حديث أنس يرفعه: ومن أحب سنتي، فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة رواه الترمذي .

وحب أهل الحديث للحديث معلوم لكل من له بصر أو بصيرة، ولا ترى أحدا غيرهم من المنتسبين إلى الإسلام يحب حديثا قط، بل يرده، ويؤيد المذهب ويحميه، ويتمسك -في مقابلة السنة الصحيحة، والآية الناطقة بالحق والصواب- بأقاويل الأحبار والرهبان، ويدرس الرأي وكتب التقليد في مواجهة الحديث والقرآن. ففي هذا الحديث بشارة لمحبي السنة بدخول الجنان، ومعية سيد الإنس والجان. ويؤيده حديث آخر صحيح: المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت»، وقوله تعالى: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [النساء: 69].

ومنها: حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد رواه البيهقي في كتاب «الزهد» له، من حديث ابن عباس . وظاهر أنه ليس يتمسك بالسنة في هذا الفساد الحاضر إلا أهل الحديث. وفساد الأمة ظاهر منذ انقراض القرون المشهود لها بالخير بنص الشارع -عليه السلام-: «ثم يظهر الكذب» إلى آخره.

وكل فرقة في الدنيا -بعد الصدر الأول إلى هذا الآن- لا تراها إلا متمسكة بالرأي أو البدعة، ومنهم تخرج الفتنة في الدين، وفيهم تعود. ما خلا أهل السنة والتوحيد، فقد عضوا عليها بالنواجذ، وفروا عن شر [ ص: 504 ] الأمور، وهي المحدثات في دين الإسلام، فكانوا أحق بهذه البشارة من بين - الفرق الكثيرة، ولله الحمد.

ومنها: حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أكل طيبا، وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة»، فقال رجل: يا رسول الله! إن هذا اليوم يكثر في الناس، قال: «وسيكون في قرون بعدي رواه الترمذي .

فيه بيان ثلاثة صفات لأهل الحديث:

الأول: أنهم يأكلون الحلال، ويجتنبون الحرام.

ومفهومها المخالف: أن غيرهم بخلاف ذلك، وهذا مشاهد في الناس لكل أحد، فإن أهل الحديث أكثرهم غرباء، لا يقدرون على أكل الحرام، ولا يستطيعون اكتسابه، بخلاف أهل الرأي والبدع، فإنهم مشاركون مع أهل الترفه والدعة، ولهم وظائف من جهة الولاة والرؤساء، والخدمات العالية الجالبة لهم الأموال.

والثاني: العمل بالحديث، وهو خاص بأهل التوحيد؛ فإن المقلدة للمذاهب، وطائفة الرأي والقياس، وفرقة البدع والمحدثات، ناكبون عن السنة منهوكون فيما هم فيه من المشارب المختلفة، والآراء المضلة، والأهواء المبتدعة، لا يرفع أحد -من ألف- رأسه إلى السنة، ولا إلى معرفتها، فضلا عن العمل بها.

والثالث: أمن الناس من شرورهم، وهذا الوصف على وجه الكمال لا يوجد إلا في فرقة التوحيد وجماعة السنة، فإن المقلدة والمبتدعة شرهم عم السماء والأرض، لسانا وبيانا.

[ ص: 505 ]

وما أفسد الدين إلا الملوك وعلماء سوء ورهبانها


برخس وخاركه در راه تمودى دارد     آخر آي باد صبا أين، مه آورده، تست

وهم المجادلون، المتكلمون، المتفلسفون، المتفيهقون، الثرثارون. بخلاف أهل السنة والحديث، فإنهم أقل الناس جدلا، وأكثرهم صبرا وسكوتا، وفي الحديث بشارة لهم. ولا شك أنه ليس في قرون بعده -صلى الله عليه وسلم- من جمع بين الأوصاف الثلاثة إلا هذه العصابة المحمدية، والجماعة السنية السنية، فطوبى لهم وحسن مآب!.

ويدل لهذا حديث أبي أمامة يرفعه: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [الزخرف: 58] رواه الترمذي، وابن ماجه .

وما أصرح [من] هذا في ذم الجدليين، وقال تعالى: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [الكهف: 54]، وهذا الجدل ليس إلا [في] فرقة التقليد، وأهل الرأي والبدع، على اختلاف أنواعهم، وتباين أقسامهم. وأما أهل الحديث، فغاية ما في الباب أنهم إذا اضطروا إلى نصرة السنة وحماية الدين، ذبوا عنها وجادلوا بالتي هي أحسن، ولا يبتدئون مع أحد في الجدل، ولا في الرد عليه والقدح فيه. وقد نص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خروج من فارقهم من الإسلام، فقال: من فارق الجماعة، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه أحمد وأبو داود عن أبي ذر.

والجماعة: هي أهل السنة، والسنة: هي الحديث، لا سنة زيد وعمر. فمن [ ص: 506 ] فارق جماعة السنة، فهذا حاله، ونعوذ بالله من جميع ما كرهه الله.

ومنها: حديث مالك بن أنس مرسلا يرفعه: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله رواه في «الموطأ».

والمتمسك بهذين الأمرين ليس إلا أهل الحديث، فهم على هدى وبصيرة من دينهم. وأما المتمسك بغيرهما من الآراء والأهواء، التي ليس عليها أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو التارك لهذين الأمرين. وتركهما -في العلم والعمل- يوجب الضلالة، وقد شاهدنا تاركيهما، فوجدناهم ضلالا مضلين، ولم نجد فيهم من يهدي إلى الرشد.

ومنها: حديث ابن عباس : من تعلم كتاب الله، ثم اتبع ما فيه»؛ أي: من الأمر والنهي وإطاعة الرسول، واتباع السنة، هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب». هذه بشارة وأي بشارة، لمتبع القرآن والحديث، والعامل بهما في القديم والحديث.

وفي رواية قال: من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى رواه رزين .

والعمل بكتاب الله مستلزم للعمل بالسنة؛ فإن القرآن شامل لها بدلالة النص، وإشارته وظاهره.

ومنها: حديث ابن عمرو يرفعه: بلغوا عني ولو آية إلى قوله: ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار أخرجه البخاري .

وهذا واضح بحمد الله؛ لأنه ليس في الأمة من يصدق عليه هذا الحديث إلا أهل الحديث، فإنهم المبلغون للآية عنه -صلى الله عليه وسلم-، والمراد بالآية هنا: الحديث. وغيرهم من المقلدة والمبتدعة على تباين طرائقهم لم يبلغوا قط إلى أحد، [ ص: 507 ] بل الذي بلغوه إلى الناس هو إيجاب التقليد، وإيثار البدع على السنن، وإحياء المحدثات من الأمور، وإماتة الآثار المأثورة في الزبور.

ومنهم من تمسك في كتبه بأحاديث موضوعة، وأخبار ضعيفة مكذوبة، وإذا نبه عليها لم ينتبه، بل سعى في تصحيحها بالتشبث بأقوال ضعيفة تأييدا للمذهب، وتقوية للمشرب، ولم يقبل الأحاديث الصحيحة المخالفة لمذهبه، جمودا على تقليدات الرجال.

ومنهم من نص على تسوية كتب الحديث، ولم يميز بين الصحيح والأصح، والحسن والضعيف؛ ترويجا لآراء الفقهاء، وتصحيحا لاجتهادات المجتهدين النبلاء، وخرق بهذا إجماع سلف هذه الأمة وأئمتها على تلقي «الصحيحين» بالقبول، وترجيحهما على ما سواهما من كتب النقول.

ومنها: حديث ابن مسعود يرفعه: نضر الله عبدا سمع مقالتي، فحفظها ووعاها، وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه رواه الشافعي، والبيهقي في «المدخل»، ورواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-.

فيه: الدعاء لأهل الحديث، وقد استجاب الله هذا الدعاء الشريف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حقهم، فأعطاهم نضرة تامة في الدنيا، وسوف يعطيهم في الآخرة ما يرضيهم.

وفي حديث آخر عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: نضر الله امرأ سمع مني شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع رواه الترمذي، وابن ماجه، ورواه الدارمي عن أبي الدرداء.

فيه: وصف المحدثين بالحفظ والضبط.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله -عز وجل- يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها رواه أبو داود .

[ ص: 508 ] قال أهل العلم: «الرأس» يحتمل أول المائة وآخرها، وفيه إشارة للأمة إلى قبول هذا التجديد، ولا يتصور التجديد إلا من عارف بالكتاب والسنة. ومن ادعاه من غير أهلهما، فهو بمعزل عن الالتفات والخطاب. نعم، ليس التجديد منحصرا في صنف من أصناف الناس، بل يوجد في كل نوع من أهل العلم، سواء كانوا من الأمراء، أو الفقراء، أو أهل الجند والمنعة. ولكن لا بد من أن يكون صاحب هذه المرتبة عالما بالقرآن والحديث، عارفا بهما على الوجه الصحيح المعتبر عند أهلهما، وإلا كان تجديده هذا تجديد بدعة وضلالة، وما للمقلدة ولهذا التجديد، فأين الثريا من الثرى؟!

وقد وجد بحمد الله ولطفه في كل مائة إلى مئتنا هذه من جدد لهذه الأمة دينها، لو شئنا لسميناهم اسما باسم، ولعل بعض أهل العلم سماهم كذلك في «حجج الكرامة»، وغيرها. وكان من مجددي هذه المائة الحاضرة على رأسها القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني في صنعاء اليمن. ولا مانع من تعدد المجددين في زمن واحد في أقطار متفرقة، وبلاد شاسعة؛ لأن الحديث لم يفصل.

ومنها: حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يحمل هذا العلم»؛ أي: علم الكتاب والسنة الحاضر في ذلك الوقت «من كل خلف عدوله»، وهم أهل الحديث والسنة، وفرقة التوحيد «ينفون عنه تحريف الغالين»، هذا شروع في بيان وصفهم الذي يعرفون به ويمتازون فيه عن غيرهم من فرق الإسلام.

[ ص: 509 ] وفيه: أن الغلاة يحرفون هذا العلم كما حرف متكلمو الإسلام ومتفلسفيه أصول الدين، وأدخلوا فيه ما لم يكن منه قط، ولم ينزل الله به سلطانا.

وكذا بعض المقلدة حرف فيه؛ اتباعا لرأي الأحبار والرهبان، وغلا في القول بوجوب التقليد الشخصي وما معناه، «وانتحال المبطلين»، وهم أهل البدع المضلة من الفرق الإسلامية على تباين مسالكهم، وتفاوت مناهجهم، «وتأويل الجاهلين»، وهم الصوفية الجهلة، والمقلدة السفهاء، وعامة الأمة الذين لا علم لهم بشيء من القرآن والحديث، وإنما مبلغهم من العلم، ما دعا إليه رأي الآباء والمشايخ، وأئمتهم، وهم لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. وقد تقدم منا الكلام على هذا الحديث مبسوطا في هذا الكتاب، فلا نرى الحاجة إلى إعادته.

وإنك إذا تأملت في مباني هذا الحديث، وبلاغة معانيه، أيقنت أنه ليس له محمل يحمل عليه إلا أهل الحديث وعصابة السنة وجماعة التوحيد، وأن هذه الأوصاف ما وجدت قط إلا فيهم، ولا توجد إلا فيمن كان على سبيلهم السوي، وصراطهم القوي، وأن جميع من سواهم من أي فرقة كان، وفي أي مذهب قام وقعد، داخل تحت هذه الألفاظ الثلاثة الجامعة لكل من عداهم، لا يخرج عنها خارج من المقلدة، ولا من المتكلمة والمبتدعة، على اختلاف أنواعها، وتباين شوارعها، فهذا علم من أعلام النبوة.

وفيه: بشارة لأهل الحديث بكونهم معدلين على لسان نبي الأمة ورسول الرحمة، وهذه خصيصتهم لا يشاركهم فيها أحد من العالمين. والناس الآخرون إنما عدلهم أبناء جنسهم، وهم الصادقون والكاذبون.

وفيه نعي على سائر الفرق، غير الفرقة الناجية التي هي عبارة عن عصابة السنة؛ بكونهم غالين، ومبطلين، وجاهلين.

[ ص: 510 ] فتدبر أيها السني في هذا الخبر الشريف، واعتبر بمفهومه اللطيف، لعل الله يهديك إلى صراطه المستقيم، وهو المستعان. رواه البيهقي في كتاب «المدخل» مرسلا. وفي الباب أحاديث لا نطول بذكرها.

وكل حديث ورد في فضل العلم والعلماء، فالمراد به: علم الكتاب والسنة، وعلماء القرآن والحديث؛ بدليل أنه لم يكن إذ ذاك علم إلا هذا العلم الشريف. وقد عقد صاحب كتاب «الحطة في ذكر الصحاح الستة» فصلا مستقلا في بيان شرف علم الحديث، وفضيلة المحدثين، وقال: فالحاصل: أن أهل السنة -كثر الله سوادهم، ورفع عمادهم- لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين. ثم ذكر حديث: «نضر الله»، وذكر عن ابن عباس : أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم ارحم خلفائي»، قلنا: يا رسول الله! ومن هم خلفاؤك؟ قال: «الذين يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس رواه الطبراني في «الأوسط».

الحديث فيه دليل على أن المحدثين خلفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أشرف هذه المنقبة، وما أعلى مقامها!! فقد أبان قدر المحدثين، وعلو مرتبتهم في العالمين. ومن شرفهم ما رويناه عن ابن مسعود يرفعه: إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة قال الترمذي : حسن غريب.

قال ابن حبان في «صحيحه»: وفيه بيان أن أولى الناس [بالنبي] في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم. وقال غيره: المخصوص بهذا الحديث: نقلة الأخبار الذين يكتبون الأحاديث، ويذبون عنه الكذب آناء الليل وأطراف النهار.

[ ص: 511 ] وقال الخطيب في كتابه «شرف أصحاب الحديث»: قال لنا أبو نعيم: هذه منقبة شريفة، يختص بها رواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر ما يعرف لهذه العصابة، نسخا وذكرا.

وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث بهذه البشرى، فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم، وأقربهم -إن شاء الله تعالى- وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات، في مجالس مذاكرتهم ودروسهم، فهم الفرقة الناجية، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم. انتهى.

وعن مطر الوراق في قوله تعالى: أو أثارة من علم قال: إسناد الحديث رواه الحاكم.

وعن أنس بن مالك في قوله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك قال: هو قول الرجل: حدثني أبي عن جدي.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يزال الناس من أمتي منصورين، لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة رواه ابن ماجه . سئل الإمام أحمد عن هذا الحديث، فقال: هم أهل الحديث، ولولا هم فلا أعلم من هم.

قلت: وفي حديث معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه: لا يزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة». قال ابن المديني: هم أصحاب الحديث، رواه الترمذي . وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد تقدم الكلام على معناه في موضعه من هذا الكتاب. [ ص: 512 ] وفيه بشارة لأصحاب الحديث، حديثا وقديما بكونهم منصورين، وعدم خذلهم. وقد وجدنا -كما في هذا الخبر- في كل زمان إلى هذا العصر، فإن الله نصرهم في مقابلة أعداء السنن وأهل الرأي في كل موطن، ولم يضرهم خذل المقلدة والمبتدعة قط، بل كلما ازداد أعداء الحديث في ردهم، ازدادوا في الدنيا عددا وعددا، حتى في هذا الزمان الحاضر. وهذا من صدق الله وصدق رسوله في وعدهما، كما قال سبحانه: وكان حقا علينا نصر المؤمنين [الروم: 47].

ومن شرف المحدثين قوله -صلى الله عليه وسلم-: إن من أشد أمتي لي حبا، من يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله رواه مسلم عن أبي هريرة .

ويزيده إيضاحا حديث أنس مرفوعا: مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره رواه الترمذي .

وفي معناه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده مرفوعا: إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدي، يجدون صحفا، فيها كتاب يؤمنون بما فيها رواه البيهقي في «دلائل النبوة». وهذا نص في أن المراد بهذا القوم في هذه الأخبار: أصحاب الحديث والقرآن؛ لأن الكتاب إذا أطلق يراد به كتاب الله. والصحف، هي صحف دواوين السنة؛ من الجوامع، والمسانيد، والمعاجم، والأجزاء ونحوها؛ لأن صيغة الجمع ظاهرة في ذلك. وإن احتمل أن المراد بها: القرآن، فإن كان المراد بها: القرآن، فالإيمان بالقرآن عين الإيمان بالسنة؛ لأن القرآن أرشدنا إلى اتباعها، والإيمان بها في غير موضع. والسنة لا تفارق القرآن، كما أن القرآن لا يفارقها، فهما كالشيء الواحد في [ ص: 513 ] العلم والعمل، والتمسك والاعتصام. والله أعلم بالصواب، وهو الهادي إليه، وإليه المآب.

التالي السابق


الخدمات العلمية