صفحة جزء
المفاسد الناشئة من اتخاذ القباب والأضرحة المزخرفة على القبور

فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ معه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها، وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين. فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور بنيت عليه قبة، فدخلها، ونظر على الستور الرائقة، والسرج المتلألئة، وقد صدعت حولها مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيما لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة له ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى إضلال العباد، وما يزلزله عن الإسلام قليلا قليلا، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله الواحد سبحانه، فيصير في عداد المشركين.

وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي على تلك الصفة، وعند أول زورة له بأن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء لمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية، أو أخروية، ويستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه زائرا لذلك القبر عاكفا عليه، متمسحا بأركانه، قد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أمورا من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يفطن لها من كان من المغفلين. وقد يضعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها: كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم عند اجتماعهم بالناس، فتشيع، وتستفيض، ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع [ ص: 584 ] الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم؛ لاعتقادهم أنهم ينالون بذلك -بجاه ذلك الميت- خيرا وأجرا بليغا، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، ونافلة حسنة، وعبادة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر. فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا بتلك الأكاذيب؛ لينالوا جانبا من الحطام من أموال الطغام والأيتام.

وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغا عظيما، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم، ما لو اجتمعت أوقافه يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين. ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة، أغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذور في معصية الله. وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا نذر في معصية الله». وهي أيضا من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: النذر ما يبتغى به وجه الله»، بل كلها من النذور التي يستحق فاعلها غضب الله وسخطه؛ لأنها تفضي بصاحبها في الغالب إلى ما يفضي به الاعتقاد في الأموات من تزلزل قدم الدين؛ إذ لا يسمح بأحب أمواله إليه، وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالما، نعوذ بالله من الخذلان.

ولا شك أن غالب هؤلاء المفرقين المخدوعين، لو طلب منهم طالب أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر ميت، على ما هو طاعة من الطاعات، وقربة من القربات، لم يفعل، ولا كاد. [ ص: 585 ] فانظر إلى أين بلغ تلاعب الشيطان بهؤلاء، فكيف رمى بهم في هذه الهوة البعيدة القعر، المظلمة الجوانب. فهذه مفسدة من مفاسد رفع القبور، وتشييدها، وزخرفتها، وتجصيصها.

ومن المفاسد البالغة إلى حد يرقى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكان من الدين: أنه يأتي كثير منهم بأحسن ما يملكه من الأنعام، ويحوزه من المواشي، فينحره عند ذلك متقربا به إليه، راجيا ما يضمر حصوله له منه، فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان؛ لأنه لا فرق بين نحر النحائر لحجر منصوبة يسمونها وثنا، وبين قبر لميت يسمونه قبرا. ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئا، ولا يؤثر تحليلا ولا تحريما. فإن من أطلق على الخمر غير اسمها، وشربها، كان حكمه حكم من شرب الخمر وهو يسميها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين. ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها؛ كالهدايا، والفدايا، والضحايا المتقرب بها إلى القبر، والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا عقر في الإسلام»، قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر، يعني: بقرة، أو شاة، رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك، ويستدفع الشر به، وهذه عبادة. وكفاك من شر سماعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبعد هذا كله تعلم أن ما سقناه من الأدلة، وما هو كالتوطئة لها، وما هو كالحلقة نختم بها البحث يقضي أبلغ قضاء، وينادي أرفع نداء، ويدل أوضح دلالة، ويفيد أجل مفاد، أن ما روي عن ذلك البعض -وهو الإمام يحيى ابن [ ص: 586 ] حمزة الزبدي اليمني - غلط من أغاليط العلماء، وخطأ من جنس ما يقع للمجتهدين، وهذا شأن البشر، والمعصوم من عصمه الله، وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

مع كونه -رحمه الله تعالى- من أعظم الأئمة إنصافا، وأكثرهم تحريا للحق وإرشادا، أو تأثيرا له. ولكنا لما رأيناه خالف من عداه بما قاله؛ من جواز بناء القباب على القبور، رددنا هذا الاختلاف إلى ما أوجب الله الرد إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فوجدنا في ذلك ما قدمنا ذكره من الأدلة الدالة أبلغ دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك، والنهي عنه، واللعن لفاعله، والدعاء عليه، واشتداد غضب الله عليه، مع ما في ذلك من كونه ذريعة إلى الشرك، ووسيلة إلى الخروج عن الملة، كما أوضحناه. فلو كان القائل بما قاله الإمام يحيى بعض الأئمة، وأكثرها، لكان قولهم ردا عليهم كما قدمنا في أول هذا البحث، فكيف والقائل به فرد من أفرادهم؟! وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: كل أمر ليس عليه أمرنا، فهو رد». ورفع القبور، وبناء القباب عليها، ليس عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما عرفناك بذلك، فهو رد على قائله؛ أي: مردود عليه. والذي شرع للناس هذه الشريعة الإسلامية هو الرب سبحانه بما أنزل في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فليس لعالم -وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزلة- أن يكون بحيث يقتدى به فيما خالف الكتاب والسنة، أو أحدهما، بل ما وقع منه الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه، يستحق به أجرا، ولا يجوز لغيره أن يتابعه، وقد أوضحنا هذا في أول البحث، بما لا يأتي التكرار له بمزيد فائدة.

وأما ما استدل به الإمام يحيى -رحمه الله- حيث قال: لاستعمال المسلمين، فهذه أدلة النهي تذكر في مدارسهم، ومجالس حفاظهم، فيرويها الآخر عن [ ص: 587 ] الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلم من العالم، من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتبها. فكيف يقال: إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يرون أدلة النبي -صلى الله عليه وسلم- واللعن لفاعله، خلفا عن سلف في كل عصر؟! ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك، مبالغين في النهي عنه.

وقد حكى ابن القيم، عن شيخه تقي الدين، وهو الإمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة وخلفها: أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور. ثم قال: وصرح أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة، لكن ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم؛ إحسانا للظن بهم، وألا يظن بهم أن يجوزوا ما تواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن فاعله، والنهي عنه. انتهى.

فانظر كيف حكى التصريح عن عامة الطوائف، وذلك يدل على أنه إجماع من أهل العلم على اختلاف طوائفهم، ثم بعد ذلك جعل أهل العلم ثلاثة مذاهب مصرحين بالتحريم، وجعل طائفة مصرحة بالكراهة، وحملها على كراهة التحريم. فكيف يقال: إن بناء القباب والمشاهد لم ينكره أحد؟ ثم انظر كيف يصح استثناء أهل الفضل برفع القباب على قبورهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قدمنا: أنه قال: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، [ ص: 588 ] أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا»؟ ثم لعنهم بهذا السبب. فكيف يسوغ من يستثني أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم، مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحذر الناس بما صنعوا، لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم؟

ثم هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد البشر، وخير الخليقة، وخاتم الرسل، وصفوة الله من خلقه، ينهى أمته أن يجعلوا قبره الشريف مسجدا ووثنا وعيدا، وهو القدوة لأمته، ولأهل الفضل من القدوة به والتأسي بأفعاله وأقواله الحظ الأوفر، وهم أحق الأمة بذلك وأولاهم به. وكيف يكون فضل بعض الأمة وصلاحه مسوغا لفعل هذا المنكر على قبره؟ وأصل الفضل ومرجعه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وأي فضل ينسب إلى فضله أدنى نسبة، أو يكون له بجنبه أقل اعتبار. فإن كان هذا محرما منهيا عنه، ملعونا فاعله في قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما ظنك بقبر غيره من أمته؟ وكيف يستقيم أن يكون للفضل مدخل في تحليل المحرمات، وفعل المنكرات؟ اللهم غفرا. انتهى كلام الشوكاني -رحمه الله- في «شرح الصدور».

وقد وجدت في «شرح سفر السعادة» للشيخ عبد الحق الترك الدهلوي -رحمه الله تعالى- قد قال بمثل قول الإمام يحيى، وعلل ذلك -بعد العلم بالأحاديث الواردة في النهي عن هذا- بأن فيه؛ أي: في بناء القباب والمشاهد على القبور شوكة للإسلام في أعين الكفار، أو كما قال. وهذا التعليل أشد نكارة من تعليل الإمام يحيى، وقد سبق الجواب عنه أيضا بما أجاب به الشوكاني الإمام المذكور في هذه الرسالة، وأجاب عنه بعض أهل العلم في كتابه «هداية السائل إلى أدلة المسائل»، والمسألة أوضح من كل واضح، وأحاديث الباب تدل على النهي عنه بالمرة.

[ ص: 589 ] ولكن خالف ملوك الأمة وولاتها الأمر الشريف النبوي، فبنوا على قبور صالحيها وأوليائها وبعض علمائها قبابا لا يأتي عليها الحصر، وعمت بها وبالمشاهد البلوى، عامتها وخاصتها، إن من لم يبن قبة؛ لصفر اليدين من المال، بنى منصة له، ورفع سمكها فسواها إلى ذراع أو أقل أو أكثر، أو أحاطه بالحائط، وهذا لا يخلو منه أحد في قطر من الأقطار، أو مصر من الأمصار. وأكثر الناس به ابتلاء، هؤلاء الأمراء الجهلة، والرؤساء السفهاء، والفقراء الخالية عن فضيلة العلم. ولو أنهم لم يقنعوا على هذا المنكر، جهلا وسفاهة، بل تابوا عنه توبة نصوحا، ولكني أراهم زادوا على البناء أشياء كثيرة يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها، ومن شمالها ومن يمينها، نهى عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. منها: تجصيصها، وصنع التعاويذ عليها، وإيقاد السرج على جدار بني عند رأسها، واتخاذ الأعراس والأعياد عندها، والكتابة عليها بالعربية والفارسية وغيرهما، بعبارات تنبئ عن فضائل المقبورين، أو عن تواريخ رحلتهم من الدنيا إلى الآخرة، أو عن مراثيهم. واعتياد النسوة لزورتها في الحرمين الشريفين وغيرهما من بلاد العجم، وإيقاف الأبكار والبنات الصغار عليها، كما سمعنا بذلك في ديار لمصر القاهرة.


وفي كل مصر مثل مصر وإنما لكل مسمى والجميع ذئاب

وهذا قبر الشيخ أحمد البدوي -رحمه الله- في المصر، يرى عليه وعنده نساء عاتقات شابات كاعبات، مطلقات غير مقيدات، يفعلن ما شئن، لا يد لأحد عليهن إلا في الفسوق واللعوب، ويكون عنده مجمع كبير واجتماع طويل عريض في كل شهر أو سنة أو أسبوع، فتختلط به الرجال بالنساء، وهن بهم، ويكون ما يكون. ونعوذ بالله في الدين من ريب المنون.

[ ص: 590 ] وبالجملة: لم تأت هذه الفتن في الملة الإسلامية إلا بدولة هذه البدع الطاغوتية، وتسامح العلماء السوء في استعمالها، والسكوت على النهي عنها. وقد تقدم قريبا عرض هذه المسائل على أدلة الكتاب والسنة، ووضح لك مثال ما ذكره القاضي العلامة الشوكاني -رحمه الله- من حكم الرد في المسألة المختلفة فيها بين أهل العلم إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتبين لك المصيب من المخطئ في ذلك، ومن بيده الحق، ومن بيده غيره. وما أحسن هذا الرد إلى الله وإلى رسوله، أصلا وقاعدة في كل مسألة وقع فيها الخلاف بين المسلمين من العامة والخاصة، فاشدد يديك عليه، وكن من الباطل اللجلج على جانب؛ فإن الله قد أثنى على من يقتدي بأحسن الأقوال كما قال سبحانه: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [الزمر: 17-18].

التالي السابق


الخدمات العلمية