صفحة جزء
فتنة القبور وبيان فتاوى العلماء

في حكم تجصيصها واتخاذ القباب والمساجد عليها

وأما فتنة القبور، فقد أدت إلى الشرك بالله في صفاته الخاصة به -عز وجل- وطالت ذيولها، وسالت سيولها، وأولدت فتنا كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى، إلى أن هجرت عبادة الرب، وجعلوه معطلا، وصارت العبادة كلها للأموات، واعتقدوا فيهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في خالق الكائنات، وأثبتوا [ ص: 593 ] لهم أنواع التصرفات في العالم، وابتلي بذلك كل جاهل في الدنيا والعالم، وصارت القبور قبلة الحاجات، وكعبة المرادات، واستراحوا في الاستعانة والاستغاثة لغير رب الأرباب، وجعلوا للموتى المشاهد، وبنوا لهم ألوانا من القباب. ولم يعلموا أن هذه الافتعالات مضادة للشريعة الحقة، ماحية للسنن الصادقة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي، والظهير التزمنني، وغيرهما. وقال القاضي ابن كبح: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة. وقال الأذرعي: أما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية، وإنفاق الأموال الكثيرة عليها، فلا ريب في تحريمه. وقال القرطبي في حديث جابر : نهى أن يجصص القبر، أو يبنى عليه. بظاهر هذا الحديث.

قال مالك : وكره البناء، والجص على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه. وقال ابن رشد : كره مالك البناء عليها، وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف في تحريمه. وقال الزيلعي في «شرح الكنز»: ويكره أن يبنى على القبر، وذكر قاضي [ ص: 594 ] خان: أنه لا يجصص القبر، ولا يبنى عليه؛ لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر. والمراد بالكراهة عند الحنفية: كراهة التحريم، وقد ذكر ذلك ابن نجيم في «شرح الكنز». وقال الشافعي : أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس.

قال في «فتح المجيد»: وكلام الشافعي يبين أن المراد بالكراهة: كراهة التحريم، وجزم النووي في «شرح المهذب» بتحريم البناء مطلقا، وذكر في «شرح مسلم» نحوه. وقال ابن قدامة صاحب «المغني»: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن اليهود والنصارى على ذلك. وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات واتخاذ صورهم، والتمسح بها، والصلاة عندها. انتهى. ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك، لاحتمل عدة أوراق. وقد تبين بهذا أن العلماء -رحمهم الله- بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو واقع. انتهى.

وأقول: لا حاجة إلى نقل الأقوال من أهل العلم في مسألة من مسائل الشرع إلا لتبكيت المقلدين، أو لبيان معاني النصوص، وإلا، فإذا ثبت حديث من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الوجه المعتبر عند أهله، فسواء قال به أحد من الأمة، وذهب إليه، أو لم يقل، ولم يذهب إليه، فالقول به واجب، والعمل به لازب، قبله الناس أو أبوا؛ فالشرع شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- والدين دين الله، وليس لأحد من الأمة وأئمتها -وإن بلغ في العلم والفضل أي مبلغ- أن يشرع شيئا من تلقاء نفسه، لا سيما إذا كان تشريعه هذا مصادما لآية الكتاب، أو دليل الحديث المستطاب.

[ ص: 595 ] وقد ثبت في موضعه أن لفظ «الكراهة» كان في عرف السلف يطلق على التحريم، وكذلك لفظ: «لا ينبغي» في محاورة الكتاب والسنة. ثم جاء قرن آخر، فحملوهما على غير معناهما من النزاهة، وترك الأولى. وهذا غلط فاحش، يدفعه كلام الأئمة القدماء، والعلماء الفقهاء، المعتد بهم في الإسلام، المعول عليهم في الأحكام.

قال في «فتح المجيد»: وقد أحدث -بعد الأئمة ومن يعتد بقولهم- أناس كثير في أبواب العلم بالله، اضطرابهم، وغلط عن معرفة ما بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيروا بها ما قصده الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عنه، وأراد. فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها؛ لتنجسها بصديد الأموات، وهذا كله باطل لوجوه:

منها: أنه من القول على الله بلا علم، وهو حرام بنص القرآن العظيم.

ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن قائله والتغليظ، وما المانع له -صلى الله عليه وسلم- من أن يقول: من صلى في بقعة نجسة، فعليه لعنة الله»؟.

ويلزم على ما قاله هؤلاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده -صلى الله عليه وسلم-، بل بعد القرون المفضلة، والأئمة الفاضلة، وهذا باطل قطعا عقلا وشرعا؛ لما يلزم عليه من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عجز عن البيان، وقصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان والتبيين فوق قدرة كل أحد، وإذا بطل اللازم، فالملزوم مثله.

ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد، إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم. فلو كانت هذه هي العلة، لكانت منتفية في قبور الأنبياء؛ لكون أجسادهم طرية، لا يكون لها صديد، فكيف يمنع من الصلاة عند قبورهم؟ فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء -عليهم [ ص: 596 ] السلام- بالنص، علم أن العلة ليست ما ذكره هؤلاء الناس. والحمد لله على ظهور الحجة، وبيان الحجة. انتهى ما في «فتح المجيد».

قلت: النهي عن البناء والجص على القبر يشمل النهي عن بناء المساجد على القبور أيضا، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد يشمل النهي عن البناء على القبور كذلك. والحاصل: أنه لا ينبغي البناء، سواء كان بناء المسجد أو غيره من القباب، والحظائر، والحاطات، والمنصات على القبر أصلا، ولا يجعل مسنما، بل يسوى بالأرض. فإن دعت الحاجة إلى معرفته، فنصب حجر عند رأس الميت المقبور يكفي لهذا العرفان. ولكن لا يكتب عليه شيء، ولا يوقد عليه سراج، ولا يلقى عليه رداء، ولا يوضع عنده عمامة، ولا قميص، ولا سيف، ولا غيرها؛ فإن هذا كله مما جاء النهي عنه، واللعن عليه، والوعيد فيه.

قال في «فتح المجيد»: فكيف يسوغ -مع هذا التغليظ من سيد المرسلين- أن تعظم القبور، ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها، هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- لو كانوا يعقلون.

قال: ولما وقع التساهل في هذه الأمور، وقع المحذور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطا لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا جل العبادة؛ من الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور وغير ذلك من كل شرك محظور.

التالي السابق


الخدمات العلمية