صفحة جزء
رجوع إلى التنديد والتشنيع بالقبوريين

والذي نحن بصدده: هو أنه إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقررناه في حكم المعتقدين للأموات لسبب من أسباب الخفاء التي قدمنا ذكرها، ولم يتعقل ما سقناه من الحجج البرهانية القرآنية والعقلية، فينبغي أن تسأله: ما هو الشرك؟

فإن قال: هو أن تتخذ مع الله إلها آخر كما كانت الجاهلية تتخذ الأصنام آلهة مع الله سبحانه.

قيل له: وماذا كانت الجاهلية تصنعه لهذه الأصنام التي اتخذوها حتى صاروا مشركين؟

فإن قال: كانوا يعظمونها، ويقربون لها، ويستغيثون بها، وينادونها عند الحاجات، وينحرون لها النحائر، ونحو ذلك من الأفعال الداخلة في مسمى العبادة، فقل له: لأي شيء كانوا يفعلون لها ذلك؟

فإن قال: لكونها الخالقة الرازقة، أو المحيية، أو المميتة، فاقرأ عليه ما قدمنا لك من البراهين القرآنية، المصرحة بأنهم مقرون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وأنهم إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، وقالوا: هم شفعاؤهم عند الله، ولم يعبدوها لغير ذلك، فإنه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أن كلام الله حق.

وبعد أن يوافقك، أوضح له أن المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصفة التي قررناها وكررناها في هذه الرسالة، فإنه إن بقي فيه بقية من إنصاف، وبارقة من علم، وحصة من عقل، فهو لا محالة يوافقك، وتنجلي [ ص: 79 ] عنه الغمرة، وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة، ويعترف بأنه كان في حجاب عن معنى التوحيد، الذي جاءت به السنة والكتاب.

فإن زاغ عن الحق، وكابر، وجادل، فإن جاءك في مكابرته ومجادلته بشيء من الشبه، فادفعه بالدفع الذي قد ذكرناه فيما سبق، فإنا لم ندفع شبهة يمكن أن يدعيها مدع إلا وقد أوضحنا أمرها.

وإن لم يأت بشيء في جداله، بل اقتصر على مجرد الخصام والدفع المجرد لما أوردته عليه من الكلام، فاعدل معه عن حجة اللسان بالبرهان والقرآن، إلى محجة السيف والسنان، فآخر الدواء الكي، هذا إذا لم يمكن دفعه بما دون ذلك من الضرب والحبس والتعزير، فإن أمكن، وجب تقديم الأخف على الأغلظ; عملا بقوله تعالى: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [طه: 44] وبقوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن [فصلت: 34].

ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم: ما جزم به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير -رحمه الله تعالى- في شرحه لأبياته التي يقول في أولها:


*رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي*



فإنه قال: إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات، هو من الكفر العملي، لا الكفر الجحودي.

ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وكفر تارك الحج، كما في قوله تعالى: فإن الله غني عن العالمين [آل عمران: 97] وكفر من لم يحكم بما أنزل الله، كما في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44] ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنا، ومن سرق، ومن أتى امرأة حائضا، أو امرأة في دبرها، أو أتى كاهنا، أو عرافا أو قال لأخيه: يا كافر.

[ ص: 80 ] قال: فهذه الأنواع من الكفر، وإن أطلقها الشارع على فعل هذه الكبائر، فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان، ويفارق به الملة، ويباح به دمه وماله وأهله، كما ظنه من لم يفرق بين الكفرين، ولم يميز بين الأمرين.

وذكر ما عقده البخاري في "صحيحه" من كتاب الإيمان، في كفر دون كفر، وما قاله العلامة ابن القيم: أن الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، من الكفر العملي.

التالي السابق


الخدمات العلمية