صفحة جزء
الإمام أبو حنيفة يذم التقليد وينهى عنه

قال الإمام الأعظم -عظمه الله تعالى-: إذا قلت قولا، وكتاب الله يخالفه، فاتركوا قولي بكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول، فقيل: إذا كان قول الصحابي يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابي. حكاه في "خزانة الرواية" عن "روضة العلماء الرندويسية".

وعنه قال: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه.

[ ص: 167 ] حكاه الفقيه أبو الليث السمرقندي، وحكاه في "خزانة الرواية" عن "السراجية" وغيرها.

وفي هذين القولين نهي [عن] التقليد.

وحكى الشيخ محمد حياة، عن ابن الشحنة: أنه قال في "نهاية النهاية": قد صح أنه قال أبو حنيفة: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

وقال ابن العز: إن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه. انتهى.

وهذا في إفادة النهي عن التقليد صريح.

وقد هذى بعض المقلدة في هذا الموضع، فقال: أين نهي إمامنا عن التقليد؟ كأنه من قلة العلم وكثرة الجهل لم يفهم من هذه العبارات التي رويت عنه أنها تفيد النهي.

قال الفلاني: ومن جملة أسباب تسليط الفرنج على بعض بلاد المغرب، والتتر على بلاد المشرق: كثرة التعصب والتفرق والفتن بينهم، في المذاهب وغيرها.

وكل ذلك من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. انتهى.

وقلت: ومن أسباب هذا على إقليم الهند: تقديم التقليد على الاتباع، وتفضيل البدع على السنن.

وقد وقع فيه من الآفات وزوال الشوكة من أهل الإسلام ما ليس بخاف على مختبر.

قال: ولا يخفى أن الانتقال من مذهب إلى مذهب لم يكن ملوما ولا مقدوحا في الصدر الأول.

[ ص: 168 ] وقد انتقل كبار العلماء من مذهب إلى مذهب، وهكذا كان من كان من الأصحاب والتابعين، والأئمة الأربعة المجتهدين، كانوا ينتقلون من قول إلى قول.

والحاصل: أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم والقلب السليم من المصالح الدينية هو المذهب عند الكل.

وهذا إمامهم الهمام أبو حنيفة -رحمه الله- كان يفتي ويقول: هذا ما قدرنا عليه في العلم، فمن وجد أوضح منه فهو أولى بالصواب. كذا في "تنبيه المغترين".

وعنه أنه قال: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة، أو القياس الجلي في المسألة.

قال علي القاري في "رسالته": وأما ما اشتهر بين الحنفية من أن الحنفي إذا انتقل إلى مذهب الشافعي يعزر، وإذا كان بالعكس، يخلع، فقول مبتدع مخترع، لا دليل عليه. انتهى.

وحاصل الكلام: أنه لو لم يوجد نص من الإمام على وجوب العمل بما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوجب على المتبعين له من العامة والخاصة والعلماء والعوام أن يعملوا بما صح عنه، ويقولوا به.

فكيف مع وجود النصوص منه على ذلك، والحض عليه، والوصية به؟!!.

فالعمل بمقالاته هذه واجب على أتباعه ومقلديه، بموجب ما ثبت عنه من الحث عليه والتوصية به، وكذلك على مقلدة الأئمة الباقية، وستأتي أقوالهم.

فمن لم يعمل بما ثبت عنه، فقد خالف إمامه، وكذب في دعوى تقليده له.

[ ص: 169 ] وإنما مقلدوه من هم على سمته، ودله وهديه في اتباع الكتاب والسنة، وهجر الرأي والتقليد.

فتأمل كيف عكست القضية، وخالف آخر هذه الأمة أولها في أمر الحق، وباينوهم مع ادعائهم الموافقة بهم.

والله سبحانه لعن الكاذبين في كتابه، ونعى على الظالمين في شريف خطابه.

قال البيهقي في "المدخل" بسنده: قال أبو حنيفة -رحمه الله-: إذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين، زاحمناهم.

وقال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلناه.

قال الشيخ محمد حياة: لو تتبع الإنسان النقول، لوجد أكثر مما ذكر، ودلائل العمل بالخبر أكثر من أن تذكر، وأشهر من أن تحصر.

لكن لبس إبليس على كثير من البشر، فحسن لهم الأخذ بالرأي لا بالأثر، وأوهمهم أن هذا هو الأول والأخير، فجعلهم بسبب ذلك محرومين عن العمل بحديث خير البشر، وهذه البلية من البلايا الكبر، فإنا لله وإنا إليه الراجعون.

قال: وتراهم يقرؤون كتب الحديث، ويطالعونها ويدرسونها، لا ليعملوا بها، بل ليعلموا دلائل من قلدوه، وتأويل ما خالف قوله، ويبالغون في المحامل البعيدة، وإذا عجزوا عن المحمل قالوا: من قلدناه هو أعلم منا بالحديث.

أولا يعلمون أنهم يقيمون حجة الله عليهم بذلك؟! ولا يستوي العالم والجاهل في ترك العمل بالحجة.

وإذا مر عليهم حديث يوافق قول من قلدوه، انبسطوا، وإذا مر عليهم حديث يخالف قوله، أو يوافق مذهب غيره، انقبضوا.

ألم يسمعوا قول الله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما . انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية