صفحة جزء
باب

في تفصيل القول في رد التقليد

فصل: ذكر تفصيل القول في التقليد، وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه

والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب

أما النوع الأول، فهو ثلاثة أنواع:

أحدها: الإعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء.

الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.

الثالث: التقليد بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد .

والفرق بين هذا وبين النوع الأول: أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة، وهذا قلد بعد ظهور الحجة له، فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله.

وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .

وقال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، وقال: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا .

وهذا في القرآن كثير، يذم فيه من أعرض عما أنزله، وقنع بتقليد الآباء .

[ ص: 256 ] فإن قيل: إنما ذم من قلد الكفار وآباءه الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ولم يذم من قلد العلماء المهتدين .

بل قد أمر بسؤال أهل الذكر، وهم أهل العلم، وذلك تقليد لهم، فقال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، وهذا أمر لمن لا يعلم بتقليد من يعلم.

فالجواب: أنه سبحانه ذم من أعرض عما أنزله إلى تقليد الآباء، وهذا القدر من التقليد، هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه وتحريمه .

وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله، وخفي عليه بعضه، فقلد فيه من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور ; كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ - إن شاء الله - .

وقال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم ، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم كما سيأتي.

وقال تعالى: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33] .

وقال تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ، فأمر باتباع المنزل خاصة.

والمقلد ليس له علم أن هذا هو المنزل، وإن كان قد تبينت له الدلالة في خلاف قول من قلده، فقد علم أن تقليده في خلافه اتباع الغير المنزل.

وقال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا .

فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا يبطل التقليد.

وقال تعالى: أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة [التوبة: 16].

[ ص: 257 ] ولا وليجة ممن جعل رجلا - بعينه - مختارا على كلام الله ورسوله، وكلام سائر الأمة، يقدمه على ذلك كله، ويعرض كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة على قوله، فما وافقه منها، قبله لموافقته لقوله، وما خالفه منها، تلطف في رده، وتطلب له وجوه الحيل، فإن لم تكن الوليجة، فلا ندري ما الوليجة .

وقال تعالى: يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [الأحزاب: 66، 67].

وهذا نص في بطلان التقليد.

فإن قيل: إنما فيه ذم من قلد من أضله السبيل، أما من هداه السبيل، فأين ذم الله تقليده؟

قيل: جواب هذا السؤال في نفس السؤال، فإنه لا يكون العبد مهتديا حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله.

فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله ، فهو مهتد، وليس بمقلد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله على رسوله، فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه. فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده؟

وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب، وأنهم إنما يقلدون أهل الهدى، فهم في تقليدهم.

فإن قيل: فأنتم تقرون أن الأئمة المقلدين في الدين على هدى، فمقلدوهم على هدى قطعا; لأنهم سالكون خلفهم.

قيل: سلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم قطعا، فإن طريقتهم كانت اتباع الحجة، والنهي عن تقليدهم، كما سنذكره عنهم - إن شاء الله - .

فمن ترك الحجة، وارتكب ما نهوا عنه، ونهى الله ورسوله عنه قبلهم، فليس على طريقهم، وهو من المخالفين لهم.

وإنما يكون على طريقتهم، من اتبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول صلى الله عليه وسلم-، بجعله مختارا على الكتاب والسنة يعرضهما على قوله .

[ ص: 258 ] وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعا، وإيهامه وتلبيسه، بل هو مخالف للاتباع.

وقد فرق الله، ورسوله، وأهل العلم، بينهما، كما فرقت الحقائق بينهما. فإن الاتباع سلوك طريق المتبع، والإتيان بمثل ما أتى به .

قال أبو عمر في "الجامع" ، باب: فساد التقليد ونفيه، والفرق بينه وبين الاتباع، قال أبو عمر: قد ذم الله - تبارك وتعالى - التقليد في غير موضع من كتابه، فقال: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله روي عن حذيفة وغيره، قال: لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم أحلوا لهم، وحرموا عليهم، فاتبعوهم.

وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب، فقال: "يا عدي ! ألق هذا الوثن من عنقك" ، وانتهيت إليه، وهو يقرأ سورة "براءة" حتى أتى على هذه الآية: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، قال: فقلت: يا رسول الله! إنا لم نتخذهم أربابا .

قال: "بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه، ويحرمون عليكم ما أحل لكم فتحرمونه؟" ، فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم"
.

قلت: الحديث في "المسند" ، والترمذي مطولا.

وقال أبو البختري في قوله - عز وجل -: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، قال: أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله، ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم، فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم، فكانت الربوبية .

وقال وكيع: حدثنا سفيان والأعمش جميعا، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة في قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله : أكانوا يعبدون؟ فقال: لا، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه .

[ ص: 259 ] وقال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء: فـ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون .

وفي هؤلاء ومثلهم، قال الله - عز وجل -: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم .

وقال تعالى عائبا لأهل الكفر، وذاما لهم: إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين .

وقال: إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء.

وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها; لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلا فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ; لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضا، وإن اختلفت الآثام فيه.

وقال الله - عز وجل -: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، قال: فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا، وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي الكتاب والسنة، وما كان في معناهما بدليل جامع .

ثم ساق من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني لا أخاف على أمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة" ، قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال: "1- أخاف عليهم زلة العالم 2- ومن حكم جائر 3- ومن هوى متبع" .

وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا إن تمسكتم بهما: 1- كتاب الله 2- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-" .

[ ص: 260 ] قلت: والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله، وبيان زلة العالم; ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد، إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة قول المعصوم.

فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه، وذموا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم; فإنهم يقلدون العالم فيما يزل فيه، وفيما لم يزل.

وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك، إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه، فالخطأ واقع منه ولا بد.

وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا، عن أبيه، عن جده مرفوعا: "اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيئته" .

وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: 1- زلة عالم 2- وجدال منافق بالقرآن 3- ودنيا تقطع أعناقكم" .

ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم، تقليده فيها; إذ لولا التقليد، لم يخف من زلة العالم على غيره، فإذا عرف أنها زلة، لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين، فإنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة، فهو أعذر منه، وكلاهما مفرط فيما أمر به.

وقال الشعبي: قال عمر - رضي الله عنه -: يفسد الزمان ثلاثة: 1- أئمة مضلون 2- وجدال منافق بالقرآن، والقرآن حق، 3- وزلة العالم.

وقد تقدم أن معاذا كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس: الله حكم قسط، هلك المرتابون. الحديث.

وفيه: "وأحذركم زيغة الحكيم; فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قلت لمعاذ: ما يدريني - رحمك الله - [ ص: 261 ] أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟

قال لي: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه ; فإنه لعله يراجع، ويلقى الحق إذا سمعه، فإن على الحق نورا .

وذكر البيهقي من حديث حماد بن زيد، عن المثنى بن سعيد، عن أبي العالية، قال: قال ابن عباس: ويل للأتباع من عثرات العالم.

قيل: وكيف ذاك يا بن عباس؟

قال: يقول العالم من قبل رأيه، ثم يسمع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم-، فيدع ما كان عليه.

وفي لفظ: فيلقى من هو أعلم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه، فيخبره، فيرجع، ويقضي الأتباع بما حكم.

وقال تميم الداري: اتقوا زلة العالم، فسأله عمر: ما زلة العالم ؟ قال: يزل بالناس، فيؤخذ به، فعسى أن يتوب العالم، والناس يأخذون به.

وقال شعبة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: يا معشر العرب! كيف تصنعون بثلاث: "1- دنيا تقطع أعناقكم 2- وزلة عالم 3- وجدال منافق بالقرآن" ؟ فسكتوا، فقال: أما العالم، فإن اهتدى، فلا تقلدوه دينكم، وإن افتتن، فلا تقطعوا منه إياسكم; فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب.

وأما القرآن، فله منار كمنار الطريق، فلا يخفى على أحد، فما عرفتم منه، فلا تسألوا عنه، وما شككتم، فكلوه إلى عالمه.

وأما الدنيا، فمن جعل الله الغنى في قلبه، فقد أفلح، ومن لا، فليس بنافعته دنياه .

وذكر أبو عمرو، من حديث الجعفي، عن زائدة، عن عطاء بن السائب، [ ص: 262 ] عن أبي البختري، قال: قال سلمان: كيف أنتم عند ثلاث: 1- زلة عالم 2- وجدال منافق بالقرآن 3- ودنيا تقطع أعناقكم؟

فأما زلة العالم، فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم.

وأما مجادلة منافق بالقرآن، فإن للقرآن منارا كمنار الطريق، فما عرفتم منه، فخذوه، وما لم تعرفوه، فكلوه إلى الله.

وأما دنيا تقطع أعناقكم، فانظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم.

قال أبو عمر: وتشبيه زلة العالم بانكسار السفينة ; لأنها إذا غرقت، غرق معها خلق كثير .

قال: إذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه.

وقال غير أبي عمر: وكما أن القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وواحد في الجنة، فالمفتون ثلاثة، ولا فرق بينهما إلا في كون القاضي يلزم بما أفتى به، والمفتي لا يلزم به .

وقال ابن وهب: سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود: أنه كان يقول: اغد عالما، أو متعلما، ولا تغد إمعة فيما بين ذلك.

قال ابن وهب: فسألت سفيان عن الإمعة، فحدثني عن أبي الزناد، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، قال: كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام، فيأتي معه بغيره، وهو فيكم المحقب دينه الرجال .

وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر البصري: حدثنا أبو مسهر، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن عبيد الله، عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر: أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس [ ص: 263 ] حتى قيل: قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله. من كان منكم قائما، فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس.

هذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض، فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، لقول فلان وفلان؟! فالله المستعان.

قال أبو عمر: وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - لكميل بن زياد النخعي، وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد; لشهرته عندهم: يا كميل! إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: 1- فعالم رباني. 2- ومتعلم على سبيل نجاة. 3- وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق.

ثم قال: آه! إن هاهنا علما - وأشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حملة، بل قد أصبت لقنا غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على معاصيه، وحامل حق لا بصيرة له في أحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف دينه .

وذكر أبو عمر عن أبي البختري، عن علي قال: إياكم والاستنان بالرجال ; فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب - لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب - لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة. فإن كنتم لا بد فاعلين، فبالأموات لا بالأحياء .

وقال ابن مسعود: لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر; فإنه لا أسوة في الشر.

قال أبو عمر: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "يذهب العلماء، ثم يتخذ الناس رؤوسا جهالا، يسألون، فيفتون بغير علم، فيضلون ويضلون" .

[ ص: 264 ] وقال أبو عمر: وهذا كله نفي للتقليد، وإبطال له لمن فهمه وهدي لرشده .

ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى، حدثنا سفيان بن عيينة، قال: اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا .

وقال عبد الله بن المعتمر: "لا فرق بين بهيمة تنقاد، وإنسان يقلد" ..

ثم ساق من حديث جامع بن وهب: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بكر بن عبد الله، عن عمرو بن أبي نعيمة، عن مسلم بن يسار، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار" ، ومن استشار أخاه، فأشار عليه بغير رشده، فقد خانه، ومن أفتى بفتيا بغير ثبت، فإنما إثمها على من أفتاه" ، وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود.

وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه أفتى بغير ثبت، فإن الثبت الحجة التي ثبت بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر.

التالي السابق


الخدمات العلمية