صفحة جزء
وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية، ومن منع منها.

وتقليد من رأى النقض بمس الذكر، ومن لم يره.

وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها، ومن لم يره.

وتقليد من وقف المولى عند الأجل، ومن لم يقفه.

أضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

فإن سوغتم هذا، فلا تحتجوا لقول على قول، ومذهب على مذهب .

بل اجعلوا الرجل مخيرا في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذاهبكم، واتبع قول أحدهم.

وإن لم تسوغوه، فأنتم أول مبطل لهذا الحديث، ومخالف له، وقائل بضد مقتضاه، وهذا مما لا انفكاك لكم منه.

الرابع: أن الاقتداء بهم، يحرم عليكم التقليد، ويوجب الاستدلال، وتحكيم الدليل كما كان عليه القوم - رضي الله عنهم -، وحينئذ فالحديث من أقوى الحجج عليكم، وبالله التوفيق .

الوجه السادس والأربعون: قولكم: قال عبد الله بن مسعود: من كان مستنا، فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد.

فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه: 1- فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء، وأنتم تقلدون الأحياء والأموات.

والثاني: أنه عين المستن بهم، بأنهم خير الخلق، وأبر الأمة، وأعلمهم، وهم الصحابة - رضي الله عنهم -.

[ ص: 320 ] وأنتم - معاشر المقلدين - لا ترون تقليدهم، ولا الاستنان بهم، وإنما ترون تقليد فلان وفلان، ممن هو دونهم بكثير.

الثالث: أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوا به، ويفعل كما فعلوا، وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة عليه.

الرابع: أن ابن مسعود قد صح عنه النهي عن التقليد، وألا يكون الرجل إمعة لا بصيرة له، فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد.

الوجه السابع والأربعون: قولكم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي" .

فهذا من أكبر حججنا عليكم، في بطلان ما أنتم عليه من التقليد، فإنه خلاف سنتهم .

ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول غيره، كائنا من كان، ولم يكن له معها قول البتة، وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك.

يوضحه الوجه الثامن والأربعون، أنه صلى الله عليه وسلم- قرن سنتهم بسنته، في وجوب الاتباع، والأخذ بسنتهم ليس تقليدا لهم، بل اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم- .

كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدا لمن رآه في المنام، والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام، لم يكن تقليدا لمعاذ، بل اتباعا لمن أمرنا بالأخذ بذلك.

فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟

يوضحه الوجه التاسع والأربعون، أنكم أول مخالف لهذين الحديثين، فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم والاقتداء بهم واجبا، وليس قولكم عندكم حجة، وقد صرح بعض علمائكم أنه لا يجوز تقليدهم، ويجب تقليد الشافعي، فمن [ ص: 321 ] العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشد الناس خلافا له، وبالله التوفيق .

يوضحه الوجه الخمسون، أن الحديث - بجملته - حجة عليكم من كل وجه، فإنه أمر - عند كثرة الاختلاف - بسنته، وسنة خلفائه، وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان.

الثاني: أنه حذر من محدثات الأمور، وأخبر أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة .

ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له كتاب الله وسنة رسوله، ويعرض القرآن والسنة عليه، ويجعل معيارا عليهما، من أعظم المحدثات والبدع، التي برأ الله سبحانه القرون التي فضلها وخيرها على غيرها.

وبالجملة: فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة، فهو حجة لا يجوز العدول عنها، فأين هذا من قول فرقة التقليد: ليست سنتهم حجة، ولا يجوز تقليدهم فيها؟!

يوضحه الوجه الحادي والخمسون: أنه صلى الله عليه وسلم- قال في نفس هذا الحديث: "فإنه من يعش من بعدي، فسيرى اختلافا كثيرا" ; وهذا ذم للمختلفين، وتحذير من سلوك سبيلهم، وإنما كثر الاختلاف، وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله، الذين فرقوا الدين، وصيروا أهله شيعا، كل فرقة تنصر متبوعها، وتدعو إليها، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم، حتى كأنهم ملة أخرى سواهم، يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا.

هذا، والنبي واحد، والقرآن واحد، والدين واحد، والرب واحد.

فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم، وألا يطيعوا إلا الرسول، ولا يجعلوا معه من تكون أقواله كنصوصه، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا .

[ ص: 322 ] فلو اتفقت كلمتهم على ذلك، وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله، وتحاكموا كلهم إلى السنة، وآثار الصحابة، لقل الاختلاف، وإن لم يعدم من الأرض.

ولهذا تجد أقل الناس اختلافا، أهل السنة والحديث، فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقا، وأقل اختلافا منهم، لما بنوا على هذا الأصل.

وكلما كانت الفرقة عن الحديث أبعد، كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر .

فإن من رد الحق، مرج عليه أمره، واختلط عليه، والتبس عليه وجه الصواب، فلم يدر أين يذهب ; كما قال تعالى: بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج [ ق: 5].

الوجه الثاني والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شريح: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله، فبما قضى به الصالحون؟

فهذا من أظهر الحجج على بطلان التقليد، فإنه أمر أن يقدم الحكم بالكتاب على كل ما سواه، فإن لم يجده في الكتاب، ووجده في السنة، لم يلتفت إلى غيرها، فإن لم يجده في السنة، قضى بما قضى به الصحابة.

ونحن نناشد الله فرقة التقليد، هل هم كذلك، أو قريبا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدث أحد منهم نفسه، أن يأخذ حكمها من كتاب الله، ثم ينفذه، فإن لم يجدها في كتاب الله، أخذها من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يجدها في السنة، أفتى بها بما أفتى به الصحابة؟

والله يشهد عليهم، وملائكته، وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلدوه.

وإن استبان لهم في الكتاب، أو السنة، أو أقوال الصحابة، خلاف ذلك، لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا منه بشيء إلا بقول من قلدوه.

[ ص: 323 ] فكتاب عمر من أبطل الأشياء، وأكسرها لقولهم. وهذا كان سير السلف المستقيم، وهديهم القويم.

فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين، ساروا عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم، فعليه أن ينظر أولا: هل فيها اختلاف أم لا؟

فإن لم يكن فيها اختلاف، لم ينظر في كتاب، ولا في سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع.

وإن كان فيها اختلاف، اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل، فأفتى به، وحكم به، وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ، وكتاب عمر، وأقوال الصحابة .

والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى; فإنه مقدور مأمور .

فإن علم المجتهد بما دل عليه الكتاب والسنة، أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض، وغربها على الحكم.

هذا إن لم يكن متعذرا، فهو أصعب شيء وأشقه، إلا فيما هو من لوازم الإسلام.

فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه، ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله، اللذين هدانا بهما، ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقا سهلة التناول من قرب.

ثم ما يدريه؟ فلعل الناس اختلفوا، وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علما بعدمه.

فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به؟

وغايته أن يكون موهوما، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكا فيه شكا متساويا أو راجحا؟

ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في [ ص: 324 ] صحة الإجماع، فما لم ينقرض عصرهم، فلمن شاء في زمنهم أن يخالفهم .

فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض، ولم ينشأ فيه مخالف لأهله.

وهل أحال الله الأمة في الاقتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه، ولا اطلاع لأفرادهم عليه، وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم، باقية إلى آخر الدهر، متمكنون من الاهتداء به، ومعرفة الحق منه؟

هذا من أمحل المحال.

وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه .

وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين، إذا احتج عليه بالقرآن والسنة، قال: هذا خلاف الإجماع. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا - من كل ناحية - على من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه.

نقل الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا. هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن لا لقول لا يعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغه.

وقال في رواية المروزي: كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا؟ إذا سمعهم يقولون: أجمعوا، فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم مخالفا كان.

وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب، ما علمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: ما أعلم فيه اختلافا، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس.

وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع في المرتبة الثالثة.

قال الشافعي: الحجة كتاب الله، وسنة رسوله، واتفاق الأئمة.

وقال في كتاب اختلافه مع مالك: والعلم طبقات، الأولى: الكتاب، والسنة الثانية، ثم الإجماع فيما ليس كتابا ولا سنة، الثالثة: أن يقول الصحابي، فلا [ ص: 325 ] يعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، الخامسة: القياس، فقدم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع، ثم أخبر أنه إنما يصير إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتابا وسنة، هذا هو الحق.

وقال أبو حاتم الرازي: العلم - عندنا - ما كان عن الله تعالى، من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحت به الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما لا معارض له، وما جاء عن الأولياء من الصحابة ما اتفقوا عليه، فإذا اختلفوا، لم يخرج من اختلافهم، فإذا أخفي ذلك ولم يفهم، فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين، فعن أئمة الهدى من أتباعهم، مثل أيوب السجستاني، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان، ومالك، والأوزاعي، والحسن بن الصالح.

ثم ما لم يوجد عن أمثالهم، فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن إدريس، ويحيى بن آدم، وابن عيينة، ووكيع بن الجراح.

ومن بعدهم، محمد بن إدريس الشافعي، ويزيد بن هارون، والحميدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وأبي عبيد القاسم. انتهى.

فهذا طريقة أهل العلم وأئمة الدين، جعل أقوال هؤلاء بدلا عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، بمنزلة التيمم، إنما يصار إليه عند عدم الماء.

فعدل هؤلاء المتأخرون المقلدون إلى التيمم والماء بين أظهرهم أسهل من التيمم بكثير .

ثم حدثت بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله، فقالوا: إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة، لم يجز أن ينظر فيها في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا أقوال الصحابة، بل إلى ما قاله متبوعه، ومن جعله عيارا على القرآن والسنة.

فما وافق قوله، أفتى به، وحكم به، وما خالفه، لم يجز له أن يفتي ولا يقضي به، وإن فعل ذلك، تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم.

واستفتى له ما يقول السادة والفقهاء، فيمن ينتسب إلى مذهب إمام معين يقلده دون غيره، ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه، هل يجوز له ذلك أم لا؟

[ ص: 326 ] وهل يقدح ذلك فيه أم لا؟

فينغض المقلدون رؤوسهم ويقولون: لا يجوز ذلك، ويقدح فيه .

ولعل القول الذي عدل إليه هو قول أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وأمثالهم.

فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن الله ورسوله، بأنه لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم بالله ورسوله منه، وإن كان مع أقوالهم كتاب الله وسنة رسوله.

وهذا من أعظم جنايات فرقة التقليد على الدين .

ولو أنهم لزموا حدهم ومرتبتهم، وأخبروا إخبارا، مجردا عما وجدوه من السواد في البياض، من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها، لكان لهم عذرا ما عند الله .

ولكن هذا مبلغهم من العلم، وهو معاداتهم لأهله، وللقائمين لله بحججه، وبالله التوفيق.

الوجه الثالث والخمسون: قولكم: منع عمر من بيع أمهات الأولاد، وتبعه الصحابة، وألزم بطلاق الثلاث، وتبعوه أيضا، جوابه من وجوه :

أحدها: أنهم لم يتبعوه تقليدا له، بل أداهم اجتهاداتهم في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده، ولم يقل أحد منهم قط: إني رأيت ذلك تقليدا لعمر.

الثاني: أنهم لم يتبعوه كلهم، فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد، وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام بالطلاق الثلاث، وإذا اختلف الصحابة وغيرهم، فالحاكم هو الحجة.

الثالث: أنه ليس في اتباع قول عمر - رضي الله عنه - في هاتين المسألتين وتقليد الصحابة - لو فرض - له في ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه بكثير، في كل ما يقوله، وترك قول من هو مثله، ومن هو فوقه، وأعلم منه.

[ ص: 327 ] فهذا من أبطل الاستدلال، وهو تعلق ببيت العنكبوت. فقلدوا عمر، واتركوا تقليد فلان وفلان.

فأما أنتم تصرحون بأن عمر لا يقلد، وأبو حنيفة، والشافعي، ومالك يقلدون، فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له، فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟

الوجه الرابع والخمسون: قولكم: إن عمرو بن العاص قال لعمر - لما احتلم -: خذ ثوبا غير ثوبك، فقال: لو فعلت، صارت سنة.

فأين في هذا من الإذن من عمر في تقليده، والإعراض عن كتاب الله، وسنة رسوله؟

وغاية هذا أن تركه لئلا يقتدي به من يراه يفعل ذلك، ويقول: لولا أن هذا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعله عمر.

فهذا هو الذي خشيه عمر. والناس مقتدون بعلمائهم، شاءوا، أو أبوا، فهذا هو الواقع، وإن كان الواجب فيه تفصيل.

الوجه الخامس والخمسون: قولكم: قد قال أبي: ما اشتبه عليك، فكله إلى عالمه، فهذا حق.

وهو الواجب على من سوى الرسول.

فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء، وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم منه.

فإن تبين له، صار عالما مثله، وإلا، وكله إليه، ولم يتكلف ما لا علم له به، فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا وسنة نبينا، وأقوال أصحابه، وقد جعل الله سبحانه فوق ذي كل علم عليما.

فمن خفي عليه بعض الحق، فوكله إلى من هو أعلم منه، فقد أصاب.

[ ص: 328 ] فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن، والسنن، وآثار الصحابة، واتخاذ رجل بعينه معيارا على ذلك، وترك النصوص لقوله، وعرضها عليه، وقول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه؟!

وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد، فإن أوله: ما استبان لك، فاعمل به، وما اشتبه عليك، فكله إلى عالمه.

ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة، هل تتركون قول من قلدتموه لها، وتعملون بها، وتفتون أو تقضون بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله، وتقولون: هو أعلم بها منا؟ فأبي - رضي الله عنه - مع سائر الصحابة على هذه الوصية، وهي مبطلة للتقليد قطعا، وبالله التوفيق.

ثم يقول: هلا وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، إذ هم أعلم الأمة وأفضلها؟ ثم تركتم أقوالهم وعدلتم عنها؟

فإن كان من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه، فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم.

الوجه السادس والخمسون: قولكم: كان الصحابة يفتون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حي بين أظهرهم، وهذا تقليد للمستفتين لهم.

فجوابه: أن فتواهم إنما كانت تبليغا عن الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط، لم تكن فتواهم تقليدا لرأي فلان وفلان، وإن خالفت النصوص، فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم يكن المستفتي لهم يعتمد إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم، فيقولون: أمر بكذا، وفعل كذا، ونهى عن كذا.

هكذا كانت فتواهم، فهي حجة على المستفتين، كما هي حجة عليهم .

ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها.

والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم ; وأن مستفتيهم لم يعلموا إلا بما [ ص: 329 ] علموه عن نبيهم، وشاهدوه، وسمعوه منه، هؤلاء بواسطة، وهؤلاء بغير واسطة.

ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة، يحلل ما حلله، ويحرم ما حرمه، ويستبيح ما أباحه.

وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم- على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر.

وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات، وأنكر على من أفتى بغير علم، كمن يفتي بما لم يعلم صحته، وأخبر أن إثم المستفتي عليه.

فإفتاء الصحابة في حياته نوعان:

أحدهما: كان يبلغه، ويقرهم عليه، فهو حجة بإقراره، لا بمجرد إفتائهم.

الثاني: ما كانوا يفتون به، مبلغين له عن نبيهم، فهم فيه رواة، لا مقلدون، ولا مقلدون.

التالي السابق


الخدمات العلمية