صفحة جزء
هدم المؤلف لأقوى مستند يتوكأ عليه المقلدون وتحقيق القول في معنى قوله تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية

الوجه السابع والخمسون: قولكم: وقد قال تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم.

جوابه من وجوه :

أحدها: أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي، الذي ينزل في غيبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم- في الجهاد.

فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على آراء الرجال على الوحي؟

الثاني: أن الآية حجة عليهم ظاهرة; فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين :

[ ص: 330 ] أحدهما: نفير الجهاد.

والثاني: التفقه في الدين .

وجعل قيام الدين بهذين الفريقين، وهم الأمراء والعلماء، أهل الجهاد، وأهل العلم.

فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين .

فإذا رجعوا من نفيرهم، استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وهنا للناس في الآية قولان:

أحدهما: أن المعنى: فهلا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم. وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين، واحتجوا به على قبول خبر الواحد; لأن الطائفة لا يجب أن يكون عدد التواتر .

والثاني: أن المعنى: فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة، وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم، ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي.

وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح; لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: "وإذا استنفرتم فانفروا".

وأيضا، فإن المؤمنين عام في المقيمين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والغائبين عنه .

والمقيمون مرادون ولا بد، فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؟

وعلى قول أولئك، يكون المؤمنون خاصا بالغائبين عنه فقط .

والمعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم، فلولا نفر إليه من فرقة منهم طائفة.

وهذا خلاف ظاهر لفظ "المؤمنين" ، وإخراج لفظ "النفير" عن مفهومه في القرآن والسنة.

وعلى كلا القولين، فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم، [ ص: 331 ] بل هي حجة على فساده وبطلانه ; فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة، فمن لم يقم عليه الحجة، لم يكن قد أنذر، كما أن النذير من أقام الحجة، فمن لم يأت بحجة، فليس بنذير، فإن سميتم ذلك تقليدا، فليس الشأن في الأسماء.

ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى، فسموه ما شئتم، وإنما ننكر نصب رجل معين، يجعل قوله عيارا على القرآن والسنن، فما وافق قوله منها، قبل، وما خالفه، لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه، فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يعلن بإنكاره وذم أهله.

الوجه الثامن والخمسون: قولكم: إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة، فقال: أما الذي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لاتخذته خليلا" يريد: أبا بكر - رضي الله عنه -، فإنه أنزله أبا .

فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه؟ وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في رفعها مما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق.

وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدا، بل أضاف المذهب إلى الصديق ; لينبه على جلالة قائله، وأنه ممن لا يقاس غيره به، لا ليقبل قوله بغير حجة، ويترك الحجة من القرآن والسنة لقوله.

فابن الزبير وغيره من الصحابة، كانوا أتقى لله، وحجج الله وبيناته أحب إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال ولقول أحد كائنا من كان.

وقول ابن الزبير: إن الصديق أنزله أبا، متضمن للحكم والدليل معا.

الوجه التاسع والخمسون: قولكم: وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليد له، فلو لم يكن في آفات التقليد غير هذا الاستدلال، لكفى به بطلانا.

وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا، وسنة نبينا، وإجماع الأمة على قبول قوله؟ فإن الله سبحانه نصبها حجة يحكم الحاكم بها، كما يحكم بالإقرار .

[ ص: 332 ] وكذلك قول المقر أيضا، حجة شرعية، وقبوله تقليد له، كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدا.

فسموه ما شئتم، فإن الله سبحانه أمرنا بالحكم بذلك، وجعله دليلا على الحكام، فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله ورسوله. ولو تركنا تقليد الشاهد، لم يلزم به حكما.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم- يقضي بالشاهد والإقرار، وذلك حكم بنفس ما أنزل الله، لا بالتقليد، فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه، واطراح قول من عداه جملة، من باب قلب الحقائق، وانتكاس العقول والأفهام.

وبالجملة: فنحن إذا قبلنا قول الشاهد، لم نقبله لمجرد كونه شهد به، بل لأن الله سبحانه أمرنا بقبول قوله.

فأنتم - معاشر المقلدين- إذا قبلتم قول من قلدتموه، قبلتموه بمجرد كونه قاله، أو لأن الله أمركم بقبول قوله، وطرح قول من سواه .

الوجه الستون: قولكم: وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم، والمقوم، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض، أتعنون به أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم، وتقليد لهم فيما يخبرون به؟

فإن عنيتم الأول، فهو باطل، وإن عنيتم الثاني، فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بطلانه .

وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد، لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل بمجرد إحسان الظن، يقابلها مع تجويز الخطأ عليه .

[ ص: 333 ] فأين قبول الأخبار، والشهادات والأقارير، إلى التقليد في الفتوى؟

والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي، طريق العلم به إدراكه بالحواس، والمشاعر الظاهرة، والباطنة.

وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به، إذا كان ظاهر الصدق والعدالة، وطرد هذا.

ونظيره قبول خبر المخبر به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك، وهلم جرا، فهذا حق لا ينازع فيه أحد.

وأما تقليد الرجل فيما يخبر به عن ظنه، فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده .

فتقليدنا له في ذلك، بمنزلة تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه، وإدراكه.

فأين في هذا ما يوجب علينا أو يسوغ لنا، أن نفتي بذلك أو نحكم به، وندين لله به، ونقول: هذا هو الحق، وما خالفه باطل، ونترك له نصوص القرآن والسنة، وآثار الصحابة، وأقوال من عداه من جميع أهل العلم؟

ومن هذا الباب تقليد الأعمى في القبلة، ودخول الوقت لغيره .

وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره في طلوع الفجر، ويقال له : أصبحت أصبحت.

وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد من في المطمورة لمن يعلمه بأوقات الصلاة، والفطر والصوم، وأمثال ذلك .

ومن ذلك: التقليد في قبول الترجمة والرسالة والتعريف والتعديل والجرح.

كل هذا من باب الأخبار التي أمر الله بقبول المخبر بها، إذا كان عدلا صادقا.

وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد في الهدية، وإدخال الزوجة على [ ص: 334 ] زوجها، وقبول خبر المرأة - ذمية كانت أو مسلمة - في انقطاع دم حيضها لوقته، وجواز وطئها، وإنكاحها بذلك.

وليس هذا تقليدا في الفتيا والحكم، وإذا كان تقليدا لها، فالله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها، ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا بتلقي أحكامه عن غير رسوله، فضلا عن ترك سنة رسوله، لقول واحد من أهل العلم، وتقديم قوله على قول من عداه من الأمة.

الوجه الحادي والستون: قولكم: وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب، وغيرها من غير سؤال حلها، اكتفاء بتقليد أربابها.

جوابه: أن هذا ليس تقليدا في حكم من أحكام الله ورسوله من غير دليل. بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله .

حتى لو كان الذابح والبائع يهوديا، أو نصرانيا، أو فاجرا، اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله! إن ناسا يأتوننا باللحمان، لا ندري، أذكروا اسم الله عليها أم لا؟ فقال: "سموا أنتم وكلوا" .

فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفساق في الدين، كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟

فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة، وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل، لنعقد معكم عقد الصلح اللام على تحكيم كتاب الله، وسنة رسوله، والتحاكم إليهما، وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا نتحيز إلى شخص معين غير الرسول، نقبل قوله كله، ونرد قول من خالفه كله، وإلا، فاشهدوا بأنا أول منكر لهذه الطريقة، وراغب عنها، داع إلى خلافها، والله المستعان.

[ ص: 335 ] الوجه الثاني والستون: قولكم: لو كلف الناس كلهم الاجتهاد، وأن يكونوا علماء، ضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا، فجوابه من وجوه :

أحدها: أن من رحمة الله سبحانه بنا ورأفته: أنه لم يكلفنا بالتقليد .

فلو كلفنا به، لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا; لأنا لم نكن ندري من نقلد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله .

فإن المسلمين قد ملأوا الأرض، شرقا وغربا، وجنوبا وشمالا، وانتشر الإسلام بحمد الله وفضله، وبلغ مبلغ الليل.

فلو كلفنا التقليد، لوقعنا في أعظم العنت والفساد، وتكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه، وإيجاب الشيء، وإسقاطه معا، إن كلفنا بتقليد كل عالم .

وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم، فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد.

ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ، فضلا عن المقلد الذي هو كالأعمى .

وإن كلفنا بتقليد البعض، وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا، صار دين الله تبعا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال .

فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى أمر الله باتباع قوله، وتلقي الدين من بين يديه.

وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله، وأمينه على وحيه، وحجته على خلقه، ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدا.

الثاني: أن بالنظر إلى الاستدلال، صلاح الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد من يخطئ ويصيب، إضاعتها وفسادها، كما أن الواقع شاهد به.

الثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر، ويطيعه فيما [ ص: 336 ] أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره.

ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها، وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تضيع مصالحها، وتفسد أمورها .

فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم.

وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة، قل الشر في أهلها، وإذا خفي العلم هناك، ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا، فهو ممن لم يجعل الله له نورا .

قال الإمام أحمد: لولا العلم، كان الناس كالبهائم .

وقال: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب ; لأن الطعام والشراب محتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثا، والعلم يحتاج إليه في كل وقت .

الرابع: أن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق، ولا تعطيل لمعاشهم.

فقد كان الصحابة قائمين لمصالحهم ومعاشهم وعمارة حروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق، وهم أهدى العلماء الذين لا يشق غبارهم.

الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول، دون مقدرات الأذهان، ومسائل الخرص والألغاز، وذلك - بحمد الله - أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه ; فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر، كما قال تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [القمر: 17].

قال البخاري في "صحيحه" : قال مطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه؟

ولم يقل: فتضيع عليه مصالحه، وتتعطل عليه معايشه .

وسنة رسوله -وهي بحمد الله مضبوطة، محفوظة - أصول الأحكام التي يدور عليها خمسمائة حديث، وفروعها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف.

[ ص: 337 ] وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان، وأغلوطات المسائل والفروع والأصول، التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي كل مالها في نمو وزيادة وتوليد، والدين كل ماله في غربة ونقصان، والله المستعان.

الوجه الثالث والستون: قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول، وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وتقليد المؤذنين، وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها.

فجوابه ما تقدم: أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط، وليس هذا من التقليد المذموم - على لسان السلف والخلف - في شيء.

ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم، وجعله دليلا على ترتب الأحكام، فإخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار .

فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين، والإعراض عن القرآن والسنن، ونصب رجل بعينه ميزانا على كتاب الله، وسنة رسوله ؟

الوجه الرابع والستون: قولكم: أمر النبي صلى الله عليه وسلم- عقبة بن الحارث، أن يقلد المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته.

فيا لله العجب! فأنتم لا تقلدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين، ولا تأخذون بهذا الحديث، وتتركونه تقليدا لمن قلدتموه دينكم.

فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين الله؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول المخبر عن أمر حسي يخبر به، وبمنزلة قبول الشاهد؟

وهل كانت مفارقة عقبة لها تقليدا لتلك الأمة، أو اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم- حيث أمره بفراقها؟

فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك، حلال وطؤها.

[ ص: 338 ] وأما نحن، فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة، بمثل ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعقبة بن عامر سواء، ولا يترك الحديث تقليدا لأحد.

الوجه الخامس والستون: قولكم: قد صرح الأئمة بجواز التقليد، كما قال سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل، وأنت ترى غيره، فلا تتهمه.

وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد مثله.

وقال الشافعي في غير موضع: قلته تقليدا لعثمان، وقلته تقليدا لعطاء.

جوابه من وجوه :

أحدها: أنكم إذا ادعيتم أن جميع العلماء صرحوا بجواز التقليد، فدعوى باطلة.

فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله والنهي عنه ما فيه كفاية .

وكانوا يسمون المقلد: الإمعة، ومحقب دينه، كما قال ابن مسعود: "الإمعة: الذي يحقب دينه الرجال" .

وكانوا يسمونه العمى الذي لا بصيرة له، ويسمون المقلدين: أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة -، وكما سماه الشافعي: حاطب ليل، ونهى عن تقليده وتقليد غيره، فجزاه الله عن الإسلام خيرا، لقد نصح لله ورسوله والمسلمين، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله، وأمر بأن تعرض أقواله عليهما، فيقبل منها ما وافقهما، ويرد ما خالفهما.

فنحن نناشد المقلدين: هل حفظوا في ذلك وصية وأطاعوه، أم عصوه وخالفوه؟

[ ص: 339 ] وإن ادعيتم أن من العلماء من جوز التقليد، فكان ما رأى الثاني أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جوزوا التقليد لمن هو أعلم منهم، هم من أعظم الناس رغبة عن التقليد واتباعا للحجة، ومخالفة لمن هو أعلم منهم.

فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن، ومن أبي يوسف، وخلافهما له معروف.

وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا، حتى يعلم من أين قلنا.

الثاني: أنكم منكرون أن يكون من قلدتموه من أئمة مقلدا لغيره، أشد الإنكار، وقمتم وتقدمتم في قول الشافعي: قلته تقليدا لعثمان، وقلته تقليدا لعطاء، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد الاضطراب، وادعيتم أنه لم يقلد "زيدا" في الفرائض.

وإنما اجتهد، فوافق اجتهاده اجتهاده، ووقع على الخاطر حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة حتى في الأكدرية ، وجاء الاجتهادان حذو القذة بالقذة، [ ص: 340 ] فكيف نصبتموه مقلدا هاهنا؟ ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو، واقتديتم بالدليل، وجعلتم الحجة إماما، لما تناقضتم هذا التناقض، وأعطيتم كل ذي حق حقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية