صفحة جزء
مشروعية الوليمة في الأعراس وبيان حكمها

وعن أنس قال: أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بنى بزينب بنت جحش، فأشبع الناس خبزا ولحما. رواه البخاري.

فيه: أن هذه الوليمة كانت أعظم الولائم، ويدل له حديث أنس في "الصحيحين" : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أولم على شيء من نسائه، ما أولم على زينب، أولم بشاة. وهذا يشير إلى النهي عن الإسراف في الأعراس، وأن أقصى ما يبذله المرء في ذلك، هذا القدر، وإن كانت الزيادة عليه جائزة مباحة بمقتضى الحال، والشخص والزمان، ولكن الكلام في الأفضل دون المفضول.

وقد أولم على صفية بحيس فقط، كما في حديث متفق عليه عن أنس، وهو طعام يتخذ من الأقط والسمن وغيرهما. ويزيده إيضاحا حديث آخر عنه قال:

أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال، يبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت، فألقى عليه التمر والأقط والسمن. رواه البخاري.

وعن صفية بنت شيبة، قالت: أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير. رواه البخاري أيضا.

[ ص: 438 ] قال في "رد الإشراك" : المراد "بمدين" : مدان من سويق شعير، كما يدل عليه بعض الروايات. انتهى.

قلت: يعني به: ما جاء عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسويق وتمر. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه.

وكل ذلك يدل على عدم التكلف في الولائم، وعلى القناعة على الحاضر، فإن تكلف، يؤكل لحما وخبزا، ولا يسرف، ولا يبذر، كما هو عادة العجم في ذلك، شهرة لهم في الناس.

ولا أقول: إن الزيادة على هذا لا تجوز، بل المراد: اختيار الأمثل فالأمثل; فإن ديننا هذا، هو التقوى، والعاقبة للمتقين، ولا يحب الله المسرفين، وكان المسرفون إخوان الشياطين.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمع سمع الله به" رواه الترمذي.

قال في "المرقاة" : "طعام أول يوم حق" ; أي: ثابت لازم فعله، وإجابته، أو واجب.

وهذا عند من ذهب إلى أن الوليمة واجبة، أو سنة مؤكدة، فإنها في معنى الواجب، حيث يسيء بتركها، ويترتب عتاب، وإن لم يجب عقاب.

"وطعام يوم الثاني سنة" ; لجبر نقصان وقع في الأول وتكميله. "وطعام يوم الثالث سمعة" ; يسمع الناس به ويرائيهم.

ومن شهر نفسه بكرم وغيره، فخرا ورياء، أشهره الله يوم القيامة بين أهل العرصات، بأنه مراء كذاب، فيفتضح بينهم.

وفيه رد صريح على أصحاب مالك; حيث قالوا باستحباب سبعة أيام لذلك. انتهى.

[ ص: 439 ] وأقول: إن الوليمة واجبة عند مالك، وأحمد، وبعض الشافعية، وأهل الظاهر.

وقال الجمهور: إنها سنة غير واجبة، وقال الشوكاني: مشروعة.

والأول أولى; لقوله لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة" ، وهو في "الصحيحين" عن أنس.

والأصل في الأمر: الوجوب، ولا صارف له منه هاهنا، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها قط، أو تركها أصحابه، بل أولم، وإن كان قليلا، وهذا ناظر في وجوبها.

ثم تجب الإجابة إليها، وذلك دليل على وجوبها أيضا.

نعم لا يجب حضورها إذا اشتملت على معصية، وحكمها حكم الضيافة، فتجوز إلى ثلاثة أيام.

وأما حديث الباب، فمعناه: أن يولم أول يوم، ويؤكل من شاء في هذا اليوم، أو في اليوم الثاني، ولا يؤكلهم اليوم الثالث; فإن في إطالة الولائم إلى الأيام مظنة رياء، ومئنة سمعة.

وليس معناه أن الوليمة في اليوم الثالث ممنوعة، كما زعم أكثر الناس.

فإن كان معناه ما فهمه الجمهور، فالجواب: أن في هذا الحديث مقالا، وحديث الضيافة أرجح منه; لكونه في الصحيح.

وليست الوليمة إلا ضيافة، فلها حكمها كما حققه صاحب "دليل الطالب" ، والعلامة الشوكاني - رحمه الله - في مؤلفاته.

وعن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل" . رواه أبو داود.

وقال البغوي: والصحيح أنه عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ويؤيده حديث أبي هريرة مرفوعا: "المتباريان لا يجابان، ولا يؤكل طعامهما" .

قال الإمام أحمد: يعني: المتعارضين بالضيافة، فخرا أو رياء.

[ ص: 440 ] قلت: وهذا عام في كل طعام يكون على هذه الصفة، ويدخل فيه طعام الوليمة دخولا أوليا.

وحاصل جميع هذه الأخبار: أن المغالاة في المهور، وإسراف المال في الولائم، وإضاعة ذات اليد في الأعراس، مكروه حرام.

والسنة في ذلك ما ذكر في الأحاديث المذكورة، وخلافها بدعة، والبدعة تنافي السنة وترفعها.

وقد رفعت هذه البدع السنن المأثورة في الصداق، والعرس، والوليمة.

والناس سرعان إلى اتباع الهوى، ومعصية الله، ومخالفة الرسول.

فمن أحب الاتباع، وكره التقليد، فعليه أن يقتدي بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله، وأحواله، وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولا يغتر بما يزخرفه أهل الزمن وأبناء الدهر من الأعراف القبيحة، والمصارف الشنيعة، والإسرافات الممنوعة، والتبذيرات المكروهة، وليخش الله ويتقه في ذات يده، التي هي معايشه في الدنيا، وبلغته إلى الآخرة، ويجعل المراسم، ومواسم الجاهلية، بمعزل عن بيته، وعلى ساحل من داره، ويعلم أن الله سائله عن ذلك كله، ومن أين أخذ المال، وأين وضعه، وفيما بذله، وهو حسيبه على ذرة ذرة من أعماله الظاهرة والباطنة، فيكشف عن ساق، وإلى ربك يومئذ المساق.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وجنبنا عما تكرهه.

التالي السابق


الخدمات العلمية