صفحة جزء
[ ص: 479 ] بيان حكم المصورين واستعمال التصاوير ووضعها في المحلات والبيوت

وعن استعمال التصاوير؛ فلما روي عن عائشة: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، قالت: فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال هذه النمرقة؟!"، قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها، وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم".

وقال: "إن البيت الذي فيه الصورة لا تدخله الملائكة" متفق عليه. النمرقة - بضم النون وفتح الراء -: وسادة صغيرة، وقيل: هي مرفقة.

والحديث أفاد أمرين: الأول: تعذيب المصورين، والآخر: عدم جواز استعمال التصاوير، وعلله في عدم دخول ملائكة الرحمة في بيت فيه ذلك.

فتقرر أن كلا الأمرين مذموم مكروه محرم. وكيف لا يكون كذلك، وفيه تشبيه بالرب تعالى، الذي هو المستأثر بالتصوير، ومن أسمائه العليا، المصور؟!

فمن صنع التصوير، فقد تشبه بالخالق القدير، في أمر ليس لغيره، ومن استعمله، فكأنما رضي بفعل المصور.

والحديث - وإن ورد في "النمرقة" - لكنه يشمل كل شيء فيه تصوير، سواء كان من جنس الثياب والوسائد والمرافق، أو من جنس الأواني، أو السلاح، أو الكتب، وسواء صنعه بعمل اليد، أو بذريعة آلة له، لصدق إطلاق التصوير على ما حصل بأعمال الآلات، فحكمه حكم التصوير، واستعماله استعمال التصوير.

وهذه البلية أيضا قد طبقت الأرض مشارقها ومغاربها، وبلغت إلى حد لم [ ص: 480 ] يبق شيء من الأشياء المحتاجة إليها في التمدن إلا وفيها تصاوير الإنسان وغيره من الحيوان، حتى الأطعمة، والأقلام، والقراطيس، والرياش كله، وعظم الخطب في التجنب عنها، وهذا على ضد الإسلام من أعدائه، وتضعيف الإيمان.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: "إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون" متفق عليه.

وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب؛ أي: تصاوير إلا نقضه؛ أي: أزال ذلك الشيء أو قطعه، رواه البخاري.

والحديثان يدلان على تحريم فعل التصوير واستعماله، وعلى ألا يترك شيء منها في البيت.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل - عليه السلام - قال: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر، فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على باب البيت فيقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع، فليجعل وسادتين منبوذتين توطآن، ومر بالكلب فليخرج"، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي، وأبو داود.

دل الحديث على ذم التماثيل الإنسانية في الثياب، ودل على أنه إذا قطع الرأس منه، ويوطأ، يجوز إبقاؤه في الاستعمال، وبه قال الفقهاء، وجمهور العلماء.

والجواز للبيان، وإلا فالأفضل محوها وإخراجها من البيت مطلقا، لأحاديث تقدمت.

وعنه في حديث آخر: "يخرج عنق من النار يوم القيامة، لها عينان تبصران وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: 1- بكل جبار عنيد [ ص: 481 ] (أي: ظالم معاند، متكبر) 2- وكل من دعا مع الله إلها آخر 3- وبالمصورين. رواه الترمذي، وفي الباب أحاديث.

واقتران المصور مع الظلمة والمشركين، دليل على عظم تحريم التصاوير واستعمالها.

ولم يشع الشرك في الأمم، ولم يدخل فيهم، إلا من هذا الباب.

فكان الأصل في عبادة الأصنام والأوثان، هذه التصاليب والتصاوير ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون .

فالتسامح في فعلها واستعمالها يفضي إلى العناية بها، والعناية بها تفضي إلى تعظيمها، وتعظيمها يفضي إلى عبادتها، تدريجا وترويجا، ويخرج العباد من النور إلى الظلمات، ومن عبادة خالق البريات إلى عبادة الجبت والطاغوت.

والناس مسامحون في استعمالها، يشترون التماثيل الطينية، والتصاليب الصينية، والتصاوير اللندنية للأطفال والصبيان، في كل موسم وأعياد، ولا يبالون بها بالا، فيدخلونها في بيوتهم، وهي في أيدي الأولاد الصغار، ويلعبون بها، ويصبحون ويمسون، فلا تدخل في دورهم ملائكة الرحمة، ولا تحصل فيها بركة الإيمان، فيقسو قلوب أهلها، ويزيد فيهم الضعف في الإسلام، ويفشو الفسوق والعصيان، فيؤول الأمر إلى ما كان في الجاهلية الأولى، ويفرح بذلك الشيطان، ويتم دسته على الإنسان.

قال في "فتح المجيد" في باب: ما جاء في المصورين: قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة، وهي المضاهاة بخلق الله، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح، التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [السجدة: 7-9].

فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله، من إنسان أو بهيمة، صار مضاهيا لخلق الله، فصار ما صوره عذابا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيه [ ص: 482 ] الروح، وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذابا؛ لأن ذنبه من أكبر الذنوب.

فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوقات برب العالمين، وشبه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة، التي خلق الله الخلق لأجلها، وليعبدوه وحده، بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه من العبد، ويرضاه؟!!فتسوية المخلوق من الخالق؛ بصرف حقه لمن يستحقه من خلقه، وجعله شريكا له فيما اختص به، أعظم ذنب عصي الله تعالى به.

ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه؛ لبيان هذا الشرك، والنهي عنه، وإخلاص العبادة له بجميع أنواعها.

فنجى رسله، ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد. فما أعظمه من ذنب! إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؛ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [الحج: 31].

وفي حديث أبي الهياج الأسدي مرفوعا: "ألا تدع صورة إلا طمستها". الحديث، وهو عند مسلم، وفيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا لذلك، وعلي بعث أبا الهياج له.

فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين، ومقاصده، وواجباته. انتهى كلامه.

التالي السابق


الخدمات العلمية