صفحة جزء
[ ص: 513 ] خاتمة الكتاب وتوفية الحساب في بيان معنى حديث: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات" والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

قلت: محصل السؤال: هل المراد بالحلال والحرام والشبهة: هو ما يتعلق بأفعال الآدميين، وسائر ما يباشرونه من المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به الإنشاءات والمعاملات، أو غير ذلك؟

وما المراد بالاتقاء عن الشبهة مما هنالك؟ أو يكون اتقاء الشبهة بأنه لا يقدم على الفعل المباح أو المندوب، خوفا من عدم القيام بالواجب، أو غير ذلك؟

فأقول: الجواب - بمعونة الملك الوهاب - يشتمل على أبحاث:

الأول: لفظ الحديث في "الصحيحين" وغيرهما: عن النعمان بن بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى، يوشك أن يواقعه".

وفي لفظ للبخاري: "لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي: "لا يدري كثير من الناس، أمن الحلال هي، أم من الحرام؟".

وفي لفظ لابن حبان: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترا من الحلال، من فعل ذلك، استبرأ لعرضه ودينه".

وللحديث ألفاظ كثيرة، ولم يثبت في "الصحيح" إلا من حديث النعمان بن بشير فقط.

[ ص: 514 ] وقد ثبت في غير الصحيح من حديث عمار، وابن عمر، عند الطبراني في الأوسط"، ومن حديث ابن عباس، عنده في "الكبير"، ومن حديث واثلة، عند الأصبهاني في "الترغيب"، وفي أسانيدها مقال.

وقد ادعى أبو عمرو الداني: أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير النعمان بن بشير، وهو مردود بما تقدم. ولعله يريد أنه لم يثبت في الصحيح إلا من طريقه كما سلف.

البحث الثاني: في ذكر كلام أهل العلم في تفسير الشبهات، وبيان ما هو الراجح لدى المجيب - غفر الله له.

فقيل: إنها: ما تعارضت في الأدلة. وقيل: إنها: ما اختلف فيه العلماء، وقيل: المراد بها: قسم المكروه؛ لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك. وقيل: هي المباح.

ويؤيد الأول والثاني: ما وقع في رواية البخاري بلفظ: "لا يعلمها كثير من الناس"، وفي رواية للترمذي: "لا يدري كثير من الناس، أمن الحلال هي أم من الحرام؟".

ومفهوم قوله: "كثير": أن معرفة حكمها ممكن، لكن القليل من الناس، وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا، في حق غيرهم. وقد يقع لهم، حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين.

ويؤيد الثالث والرابع: ما وقع في رواية لـ "ابن حبان"، بلفظ: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل، استبرأ لعرضه ودينه".

فعلى هذين، قد تضمن الحديث، تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو تقسيم صحيح. لأن الشيء 1- إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه. 2- أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله. 3- أو لا ينص على واحد منهما.

[ ص: 515 ] فالأول: الحلال البين. والثاني: الحرام البين. والثالث: المشتبه لخفائه، فلا يدري، أحلال هو أم حرام؟

وما كان على هذا، ينبغي اجتنابه؛ لأنه إن كان في نفس الأمر حراما، فقد برئ من التبعة، وإن كان حلالا، فقد استحق الأجر على الترك بهذا القصد.

ونقل ابن المنير عن بعض مشايخه: أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه، يطرق إلى الحرام.

والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه، يطرق إلى المكروه.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والذي يظهر لي رجحان الأول - يعني: أن المشتبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة -.

ثم قال: ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس.

فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح، أو المكروه.

ومن دونه، يقع له الشبهة في جميع ما ذكر، بحسب اختلاف الأحوال.

ولا يخفى أن المستكثر من المكروه، يصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي عنه في الجملة، أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي عنه غير المحرم، على ارتكاب المنهي المحرم، أو يكون ذلك لسر فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه، يصير مظلم القلب؛ لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يجتر الوقوع فيه.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم..." إلى آخر الحديث.

انتهى ما ذكره الحافظ في "الفتح".

ولا يخفى عليك: أن تفسير المشتبهات بكل واحد من التفسيرين الأولين، صحيح؛ لأنه يصدق على كل واحد منهما: أنه مشتبه.

[ ص: 516 ] وبيانه: أن ما تعارضت فيه الأدلة، ولم يتميز للناظر فيها الراجح من المرجوح لا يصح أن يقال: هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين؛ لأن الأمر الذي تعارضت أدلته، وخفي راجحه من مرجوحه، لم يتبين أمره بلا ريب، إذ المتبين هو ما لم يبق فيه إشكال.

وما تعارضت أدلته، فيه أعظم الإشكال، وهكذا ما اختلف فيه العلماء، لكن بالنسبة إلى المقلد؛ لأنه لا يعرف الحق والباطل، ولا يميز بينهما إلا بواسطة أقوال أهل العلم الذين يأخذ عنهم ويقلدهم، وليس له من الملكة العلمية ما يقتدر به على الوصول إلى دلائل المسائل، ومعرفة العالي منها والسافل.

فإذا اختلف عالمان في شيء، فقال أحدهما: إنه حلال، وقال الآخر: إنه حرام، وكان كل واحد منهما بمحل من العلم، يساوي الآخر في اعتقاد المقلد، فلا شك ولا ريب أن هذا الشيء الذي اختلف فيه العالمان، فقال أحدهما: حلال، وقال الآخر: حرام، لا يصح أن يقال: هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين، بالنسبة إلى ذلك المقلد.

وكل شيء لا يصح أن يكون أحد هذين الأمرين، لا ريب أنه من المشتبهات.

فإن قلت: فماذا يصنع هذا المقلد عند هذا الاختلاف؟

إن قلت: يتورع ويقف عند الشبهة، استلزم ذلك أن يترك أكثر الأحكام الشرعية، بل جميعها إلا القليل النادر، إذ أكثر المسائل الشرعية قد وقع الاختلاف فيها بين أهل العلم، فهذا يثبت هذا الحكم، وهذا ينفيه، وهذا يحله، وهذا يحرمه.

قلت: ليس المراد بالوقوف عند الشبهات: أن يترك القولين جميعا. بل المراد: الأخذ بما لا يعد حرجا عند القائلين كليهما.

مثلا، لو قال أحدهما: لحم الخيل أو الضبع حلال، وقال الآخر: لحم الخيل أو الضبع حرام.

[ ص: 517 ] وقال أحدهما: شراب النبيذ، أو المثلث حلال، وقال الآخر: حرام، أو قال أحدهما: بيع النساء حلال، وقال الآخر: حرام، ونحو ذلك من الأحكام، فالوقف الذي هو من شأن أهل الإيمان أن يترك المقلد أكل لحم الخيل، ولحم الضبع، وشرب النبيذ، والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء.

فهذا الوقف مسلك مرضي به لكل واحد من العالمين المختلفين.

أما القائل بالتحريم، فظاهر، وأما القائل بالحل، فإنه لا يقول: يجب على الإنسان أن يأكل لحم الخيل، أو لحم الضبع، أو شرب النبيذ، أو المثلث، أو يعامل ببيع النساء.

بل غاية ما يقول به، أن ذلك حلال، يجوز فعله، ويجوز تركه. فالتارك عند كل من القائلين مصيب.

إنما يختلف الحال عندهما: أن القائل بالتحريم يقول: يثاب التارك ثواب من ترك الحرام.

والقائل بالتحليل لا يقول بالإثابة في الترك؛ لأنه فعل أحد الجائزين.

وكما أن الوقف المحمود للمقلد هو ما ذكرناه، كذلك الوقف للعالم المجتهد عند تعارض الأدلة، هو أنه يترك ما فيه البأس إلى ما لا بأس به.

مثلا إذا تعارضت عنده أدلة تحليل لحم الخيل والضبع والتحريم، وأدلة تحليل شرب النبيذ والمثلث، وبيع النساء، والتحريم، ولم يهتد إلى الترجيح، ولا إلى الجمع بين الأدلة، فالورع المحمود: هو الوقف الذي أرشد إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو ألا يأكل لحم الخيل والضبع، ولا يشرب النبيذ والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء، ولا يفتي بحل شيء من ذلك.

ولا ريب أنه إذا وفد إلى عرصات القيامة، ووقف بين يدي الرب سبحانه، وجد صحائف سيئاته خالية عن ذكر هذه الأمور؛ لأن تركها ليس بذنب؛ فإن الله تعالى لا يحاسب أحدا من عباده على ترك مثل هذه الأمور، بل ربما وجد ما وقع منه الكف للنفس عن هذه الأمور المشتبهة في صحائف حسناته؛ لأنه قد وقف [ ص: 518 ] عند ما أمر بالوقوف عنده، واستبرأ لعرضه ودينه.

والله سبحانه لا يضيع ترك تارك، كما لا يضيع عمل عامل: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 7-8].

وكما أن الورع قد يكون في الترك، فقد يكون في الفعل.

مثلا: لو تعارض عند العالم الأدلة القاضية بوجوب الغسل يوم الجمعة، والأدلة القاضية بعدم الوجوب، فإن الورع والوقوف عند المشتبهات، هو أن يغتسل؛ لأن الأدلة القاضية بعدم الوجوب ليس فيها المنع من الغسل، بل فيها الترغيب إليه؛ كحديث: "من توضأ يوم الجمعة، فبها ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل".

وهكذا المقلد إذا سمع أحد العالمين يقول بوجوب الغسل، والآخر يقول: لا يجب، فالورع والوقوف عند المشتبهة، هو أن يغتسل؛ لأن القائل بعدم الوجوب لا يقول بعدم الجواز، بل يقول بأن الغسل مسنون أو مندوب.

والضابط لذلك - بالنسبة إلى المجتهد -: أن الدليلين المتعارضين، إذا كان أحدهما يدل على الوجوب أو الندب، والآخر على الإباحة، فالورع الفعل.

وأما إذا كان أحدهما يدل على التحريم أو الكراهة، والآخر يدل على الوجوب أو الندب، فهذا هو المقام الضنك، والموطن الصعب.

ومثاله: ما ورد من النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة، وما ورد من الأمر بصلاة التحية، والنهي عن تركها، فإن ظاهر النهي عن الصلاة يعم صلاة التحية وغيرها.

وظاهر الأمر والنهي عن تركها عند دخول المسجد يعم الأوقات المكروهة وغيرها.

وبين الدليلين عموم وخصوص من وجه، وليس أحدهما بالتخصيص أولى من الآخر في مادة الاجتماع؛ لأن كل واحد منهما صحيح مشتمل على النهي، ولم يبق إلا الترجيح بدليل خارج عنهما، ولم يوجد - فيما أعلم - دليل خارج [ ص: 519 ] عنهما، يستفاد منه ترجيح أحدهما على الآخر، وقد قال قائل: إن الترك أرجح، لأوقع الأمر بالصلاة، والأوامر مقيدة بالاستطاعة، فاتقوا الله ما استطعتم [التغابن: 16]، "إذا أمرتم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم".

وأقول: إنما يتم هذا لو كان الوارد في صلاة التحية ليس إلا مجرد الأمر بها عند دخول المسجد فقط، وليس الأمر كذلك، بل قد ورد النهي عن الترك في الصحيح بلفظ: "فلا يجلس حتى يصلي ركعتين".

إذا عرفت هذا، فظاهر حديث الأمر بصلاة التحية: أنها واجبة، وظاهر حديث النهي عن تركها: أن الترك حرام، وظاهر حديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة - كبعد صلاة العصر، وبعد صلاة الفجر -: أن فعلها حرام.

فقد تعارض عند العالم العارف بكيفية الاستدلال، دليلان: أحدهما يدل على تحريم الفعل، والآخر يدل على تحريم الترك.

فلا يكون الورع والوقوف عند المشتبه إلا بترك دخول المسجد في تلك الأوقات.

فإن ألجأت الحاجة إلى الدخول، فلا يقعد، وهذا على فرض أنه لم يوجد عند العالم ما يدل على عدم وجوب صلاة التحية، وعلى أن الأمر فيها للندب، والنهي عن الترك للكراهة.

أما إذا وجد عنده ذلك؛ كحديث ضمام بن ثعلبة؛ حيث قال له صلى الله عليه وسلم: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" ونحوه، فلا يصلح ما ذكره للمثال.

وقد حررت في ذلك رسالة مستقلة، وأبحاثا مطولة، في "شرحي للمنتقى"، وفي "طيب النشر في الجواب على المسائل العشر"، وغير ذلك. وليس المقصود هاهنا إلا مجرد المثال لما نحن بصدده.

وكما أن الورع للعالم في تعارض الأدلة على الصفة التي قدمنا، هو [ ص: 520 ] ما ذكرناه، كذلك الورع للمقلد إذا اختلف عالمان، فقال أحدهما: هذا الشيء يحرم تركه، وقال الآخر: يحرم فعله.

أو قال أحدهما: هذا الشيء يكره فعله، وقال الآخر: يكره تركه، فالورع له أن يفعل مثل ما ذكرناه في صلاة التحية.

وإذ قد فرغنا من بيان كون التفسير الأول والثاني - أعني: ما تعارضت أدلته، وما اختلف فيه العلماء - كلاهما من المشتبهات، وإن اختلف الحال. فإن الأول منهما مشتبه باعتبار المجتهد، والثاني مشتبه باعتبار المقلد، فليبين هل التفسير الثالث والرابع - أعني: المباح والمكروه - من المشتبهات أم لا؟

اعلم أنا قد وزنا أن الحلال البين: هو ما وقع النص على تحليله، والحرام البين: هو ما وقع النص على تحريمه.

ولا ريب أن المباح، إن وقع النص من الشارع على كونه مباحا أو حلالا، فهو من الحلال البين.

وهذا إن سكت عنه، ولم يخالف دليل العقل، ولا شرع من قبلنا، فهو أيضا من الحلال البين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن ما سكت عنه، فهو عفو.

فمثل ما ذكرناه من المباح، إذا لم يكن فعله ذريعة للوقوع في الحرام، شك أنه لا يصح إدراجه في المشتبهات، ولا تفسيرها به، بل من المباح، فبم يصح أن يكون من جملة ما يفسر به الشبهات المذكورة في الحديث، وهو ما كانت العادة تقتضي أن الاستكثار منه يكون ذريعة إلى الحرام، ولو نادرة.

وذلك كالاستمتاع من الزوجة بما عدا القبل والدبر؛ فإن الشارع قد أباحه، ولكنه ربما يدرج به بعض من لا يملك نفسه إلى الحرام، وهو الوقوع في القبل والدبر، ولهذا تقول أم المؤمنين عائشة: وأيكم يملك إربه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟!.

فإن هذا النوع من المباح وما شابهه، وإن كان حكمه معلوما من الشريعة، وأنه من الحلال البين، ولكنه يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: [ ص: 521 ] "والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل، استبرأ لعرضه ودينه".

فهذا الدليل، يدل على أن ما كان من المباحات ذريعة إلى الحرام - ولو نادرا -، فالورع الوقوف عنده وتركه.

ولهذا قال بعض السلف: إن الورع ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس، وقد كان السلف الصالح يأخذون من ذلك بأوفى نصيب خير.

كان كثير منهم تمر عليه السنون الكثيرة فلا يرى متبسما.

التالي السابق


الخدمات العلمية