صفحة جزء
[ ص: 4873 ] باب في تضمين الصناع

الصناع على ضربين: منتصب لتلك الصناعة، وغير منتصب.

فالمنتصب: من أقام نفسه لعمل تلك الصناعة التي استعمل فيها، كان يعملها في سوقها أو في داره.

وغير المنتصب: من لم يقم نفسه لها، ولا منها معاشه.

وفائدة الفرق بينهما: دعوى التلف، ودعوى الرد، وما يطرأ من الفساد في ذلك المستصنع.

فالمنتصب على الضمان فيما يقبضه ويغيب عليه، لا يصدق في دعوى الضياع، واختلف في دعواه الرد: هل يصدق أو يكون على الضمان حتى يثبت الرد؟ وهو فيما يكون فيه من فساد من سبب الصنعة على حكم المتعدي ضامن، إلا فيما الغالب فيه حدوث مثل ذلك.

وغير المنتصب على الأمانة فيما يقبضه، فإن ادعى تلفا أو ردا قبل قوله وحلف وبرئ، وسواء غاب عليه أو عمله في دار صاحبه، وإن أتى به وبه عيب، خرق أو حرق نار كان القول قوله أنه من غير سببه، ولا تفريط ويستظهر عليه في ذلك باليمين، إلا أن يكون مبرزا في حاله وعدالته.

وإن كان العيب من سبب الصنعة كان فيه قولان: هل يضمن أم لا؟ [ ص: 4874 ]

وهذا الأصل في كل من أخطأ فيما أذن له فيه، والصواب أن لا ضمان عليه، إلا أن يعلم أنه غر من نفسه: بأنه لا يحسن تلك الصنعة، أو يقال: إن ذلك لا يكون إلا عن تفريط- فيضمن.

ويتفق المنتصب وغيره إذا اختلفا فقال: أمرتك بغير تلك الصنعة، وقال الآخر: بل بما عملته، فإن ادعى المنتصب التلف فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال:

إما أن يغيب على ما يعمله فيعمله في حانوت نفسه أو في بيته، أو يعمل بحضرة صاحبه، أو يدعوه صاحبه إلى داره فيعمله عنده، فإن غاب عليه كان ضامنا له ولم يصدق في تلفه; لأن الغالب من الصناع عدم الأمانة، فلو صدقوا لاجترؤوا على أموال الناس، وإذا علموا أنهم لم يصدقوا لم يجترئوا عليها، قال مالك: يضمنون; لأن ذلك على وجه الحاجة إلى عملهم وليس على وجه الاختيار لهم والأمانة، ولو كان ذلك إلى أمانتهم لاجترؤوا عليها، ولم يجد الناس مستعملا لتلك الأعمال فيضمنوا لمصلحة تلك الناس.

قال: ومما يشبه ذلك من منفعة العامة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبيع حاضر لباد" [ ص: 4875 ] "ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق". وإن دعاه لعمل ذلك عنده، كان القول قول الصانع في تلفه، وسواء حضر صاحب المتاع في حين عمله، أو غاب عنه فهو المصدق، ويختلف إذا عمله الصانع في حانوت نفسه بحضرة صاحبه، فقال محمد: القول قول الصانع في تلفه، وفي كتاب ابن حبيب في مثل ذلك: أنه ضامن، وليس بحسن.

واختلف في سقوط الضمان في موضعين: أحدهما: إذا قامت البينة على الضياع، والآخر: إذا اشترط الصانع أنه مصدق في ضياعه- هل يكون له شرطه؟ فأما إذا قامت البينة على الضياع لم يكن عليه ضمان عند مالك وابن القاسم، وعلى أصل أشهب يكون ضامنا قياسا على قوله في الرهان والعواري: أنه ضامن مع قيام البينة، وعلى قوله في الورثة يقتسمون العين ثم يثبت على الميت دين، فإن ذلك مضمون مع قيام البينة على الضياع، والأول أحسن; لأن أخذ الصانع والمرتهن والمستعير لذلك- لم ينقل ملك صاحبه عنه، ومصيبة كل ملك من مالكه ما لم يكن من الأجير تعد، ولأن علة الضمان خوف الجحود، وإذا لم يكن جحود بقي على الأصل: أنه من مالكه. [ ص: 4876 ]

وقال مالك وابن القاسم في كتاب محمد: إذا اشترط الصانع أن لا ضمان عليه فشرطه ساقط، قال مالك: ولو مكن من ذلك ما عمل منهم أحد حتى يشترط ذلك ولا بد للناس من عمل ثيابهم. وذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد عن أشهب أن لهم شرطهم، يريد: ما لم يكثر ذلك منهم، فإن كثر اشتراطهم سقط ولم يوف لهم بذلك.

واختلف بعد القول أنه شرط لا يوفى به، فقيل: الإجارة لازمة والشرط باطل، وقيل: إن أسقط الصانع الشرط صحت الإجارة، وإن تمسك به فسخت إن لم يعمل، فإن عمل كان له الأكثر من المسمى أو إجارة المثل، ويجري فيها قول ثالث: أن الإجارة فاسدة تفسخ مع القيام وإن أسقط الشرط، وتكون له مع الفوات إجارة المثل قلت أو كثرت، قياسا على قول مالك: إذا استؤجر على رعي الغنم، وعلى أنه غير مصدق فيما هلك، فقال مالك: الإجارة فاسدة وله إجارة المثل.

فهذا شرط أن لا ضمان عليه فيما عليه ضمانه، والآخر شرط ضمان ما لا ضمان عليه فيه، ولأن الصانع يحط من أجرته ليتمكن له ما يجب من الخيانة وأن يذهب بما يعمله. [ ص: 4877 ]

والفران ضامن لما يأخذه من قمح ليطحنه، أو عجين ليخبزه، وهو في ذلك على حكم الصناع. ويختلف في القمح: هل يضمنه قمحا أو دقيقا؟ وفي العجين: هل يضمن مثله أو قيمته؟ وحامل ذلك إلى الفران ضامن، لا يصدق إن ادعى التلف وإن لم يكن صانعا; لأن حامل الطعام لما يضمن؛ لما كانت أيديهم تسرع إليه وإلى الخيانة فيه، والجواب إذا اختلف حامله مع الفران في تسليمه إليه أو في قبضه منه بعدما سلمه إليه مذكور فيما بعد هذا. [ ص: 4878 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية