صفحة جزء
باب في إجارة الحمامات وغيرها من العقار

إجارة الحمام للرجال جائزة إذا كانوا يدخلونه مستترين، وإجارته للنساء على ثلاثة أوجه: جائزة إذا كانت عادتهن ستر جميع الجسد، وغير جائزة إذا كانت العادة ترك الستر جملة، واختلف إذا كانت العادة الدخول بالمآزر، فقيل لسحنون في جامع "المستخرجة" في المرأة تدخل الحمام ما حد ما تستتر؟ قال: تدخل في ثوب يستر جميع جسدها.

وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: اختلف في دخول النساء الحمام في هذا الوقت، فقيل: يمنعن، إلا لعلة من مرض لا يصلحه إلا الحمام، أو حاجة إلى الغسل من حيض أو نفاس أو شدة برد. وقيل: إنما يمنعن لما لم تكن لهن حمامات بانفرادهن.

وقال مالك في "مختصر ما ليس في المختصر": يحرم دخول المرأة الحمام وإن كانت مريضة أو نفساء، إلا ألا يكون معها فيه أحد. فأجيز في القول الأول أن تنظر المرأة من المرأة ما فوق المئزر ولم يره عورة. ومنعه في القول الآخر ورأى أن جميع جسد المرأة مع المرأة عورة، ولا يجوز أن ينظر فيه بعضهن [ ص: 5039 ] إلى بعض، وهو أشبه; لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام". ففرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما، فأجازه للرجال إذا كانوا بمآزر، ومنعه للنساء جملة من غير تفصيل، وهو حديث حسن السند، أخرجه الترمذي في مسنده.

وفي هذا الحديث دليل على نبوته -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم يكن لهم يومئذ حمامات، وإنما أعلمه الله -عز وجل- أنها ستكون لأمته فكانت، وأقام لهم الشرع فيها بما يجوز وما لا يجوز.

ويعتبر مثل ذلك في إجارة الدور والحوانيت وغيرها، فلا تؤاجر الديار ممن يعلم أنه يأوي إليها بما لا يحل من شرب خمر أو غيره، ولا الحوانيت ممن يبيع فيها الغصوبات; لأنها معونة على ما لا يحل، ويأخذ الأجرة مما لا يحل لفساد ذمته، ولا ممن يبيع فيها السيوف والرماح وغير ذلك من آلات الحرب; لأن المعهود اليوم ممن يشتريها أنه يريدها لإيذاء المسلمين أو لحربهم، ويتصدق بالكراء إذا لم يعلم بذلك حتى انقضت المدة، كالذي يكري حانوته ممن يبيع فيها الخمر، إلا أن يكون ذلك مما يراد به الغزو وقتال من على غير الإسلام.

وكذلك الفنادق لا يؤاجر منها شيء لمن يأوي إليها الفساد، أو لمن يبيع [ ص: 5040 ] فيها ما لا يحل. وإذا أكرى حانوته من يهودي أو نصراني وهو يعلم أنه يعمل بالربا، لم يعرض له; لأن ذلك من دينهم إذا كانوا يعملون بذلك مع أهل دينهم، وإن كانوا يعملون بذلك مع المسلمين، لم يؤاجر منهم، ولا يؤاجر ممن يعلم أنه يبيع الخمر فيه; لأنهم لم يعطوا العهد على أن يعلنوها، ولا داره ممن يتخذها كنيسة.

واختلف في ذلك إذا نزل على ثلاثة أقوال، فقيل: يفسخ ذلك مع القيام، وتؤخذ الأجرة في الفوت ويتصدق بها، قال في كتاب الجعل: يفعل بها إذا قبض أو لم يقبض مثل ما وصفنا لك في ثمن الخمر. وقال أيضا: يتصدق بالأجرة أدبا لهذا المسلم، ولم ينزله منزلة الخمر.

وقال في "المستخرجة": إذا أجر حانوته ممن يبيع فيه الخمر، فأرى أن يفسخ الكراء إذا لم يفت، فإن فات تم ولم أفسخه. وإن أكرى دابته ممن يمضي بها إلى الكنيسة، فإنه يمضي ولا يرد.

وقد اختلف قول مالك في كراء الدابة، فأمضى إجارة الحانوت مع الفوت ولم يره بمنزلة من باع من الذمي خمرا; لأن هذا باع منافع يجوز ملكها وبيعها بما يجوز قبضه وهي الدنانير والدراهم، والمكتري يصرف تلك المنافع في ذلك الوجه، وهذا الوجه يرجع إلى قوله أنه [ ص: 5041 ] يتصدق به أدبا له; لأنه يؤدبه مرة في ماله إذا رأى ذلك، أو في بدنه دون المال، وأمضى الإجارة إلى الكنيسة; لأنهم أعطوا العهد على إظهار ذلك.

وأما إجارة الدار ممن يتخذها كنيسة، فإن كانوا قد أعطوا العهد على ذلك وأباح لهم الإمام عملها، كان أخذ الإجارة على ذلك أخف. وإن لم يعطوا ذلك وكانوا متعدين في عملها كان أشد، ويتصدق بالإجارة على أحد القولين.

وإن أجر داره من ذمي على أن يبيع فيها زيتا أو خلا فجعل يبيع فيها الخمر فلم ينكر عليه ذلك رب الدار، كان له أخذ الأجرة; لأن المضرة فيما اكتريت له وفي الخمر سواء، وإذا لم يكن لرب الدار مقال من ناحية المضرة، كان المنع من وجه النهي عن المنكر، وكان رب الدار وغيره في ذلك سواء غير أنه يؤخذ من الساكن فضل ما بين الكراءين فيتصدق به; لأن الكراء لمكان ذكر الخمر أكثر، ولا مقال فيه لرب الدار; لأنه لم يضر به.

ولو كان الكراء ليسكن فجعل يبيع الخمر، فإن لم يعلم بذلك المكري، قوم كراء تلك الدار ثلاث قيم، يقال: بكم تكرى لتسكن؟ فإن قيل: بعشرة دنانير، قيل: بكم تكرى ليباع فيها ما يكون مضرا بها كمضرة الخمر مثل الزيت والخل؟ فإن قيل: باثني عشر كان للمكري المسمى وديناران، وهو فضل ما بين الكراءين، ثم يقال: بكم تكرى على أن يباع فيها الخمر؟ فإن قيل: أربعة عشر دينارا، كان على المكري ما زاد على الاثني عشر فيتصدق به، وإن كان المكري عالما فتركه [ ص: 5042 ] ولم ينكر عليه، تصدق بجميع ذلك، هذا قول ابن حبيب; لأنه إذا أكراه للسكنى كان من حقه أن يمنعه من بيع الخمر للفساد الذي يدخل عليه من تلويث الدار والجدر، وإذا تركه ولم يمنعه كان قد فسخ الأول في الثاني؛ لأنهما جنسان.

وعلى قوله في "العتبية" يترك له ولا يتصدق به عليه، بل هو في هذا أخف; لأن هذا أكرى كراء صحيحا فأدخل عليه المكتري عيبا فترك مقاله في العيب.

قال ابن حبيب: ولو أكراها ممن يبيع فيها الخمر فصرف ذلك إلى السكنى، كان الكراء سائغا للمكري.

يريد: لأن الأول كان غير منعقد بانتقالهما إلى الآخر كابتداء عقد، إلا أن تكون قيمة الثاني أقل، ويقول المكتري: لم أرض فيه المسمى، فيحط عنه ما بين الكراءين; لأن الزائد كان ثمن ما لا يحل.

وإن تعدى رجل على دار رجل أو حانوته فباع فيها خمرا، فإن كان المعتدي نصرانيا أخذ منه كراءها.

واختلف إذا كان مسلما، فلم ير ابن القاسم له شيئا; لأنه مستغرق الذمة يبيع الخمر. وقال ابن حبيب: له الكراء، إلا ألا يكون له كسب إلا من ثمن الخمر. والأول أحسن، ولا شك أن من هذا شأنه تستغرق ذمته. [ ص: 5043 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية