صفحة جزء
باب في زكاة العين

والأصل في ذلك قول الله سبحانه: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله... الآية [التوبة: 34] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، وقوله: "في الرقة ربع العشر"، وقوله: "في عشرين دينارا نصف دينار".

فأفادت الآية تعلق الزكاة بالعين دون معرفة النصاب والقدر الذي يؤخذ، وأفاد الحديث الأول معرفة نصاب الورق دون ما يؤخذ منه، وأفاد الحديث الثاني معرفة ما يؤخذ للفقراء وغيرهم، وأفاد الحديث الثالث معرفة نصاب الذهب والقدر المأخوذ منه. [ ص: 862 ]

واختلف في هذه الجملة في ثلاثة مواضع:

أحدها: الآية، هل المراد بها غير الزكاة؟

والثاني: نصاب الذهب.

والثالث: الرقة، هل هو اسم للورق خاصة، أو للذهب والورق؟

فأما الآية فقيل: المراد بها النفقة في الجهاد، ثم نسخ ذلك بالزكاة. وقال غير واحد من الصحابة وغيرهم: المراد بها الزكاة، وهو أحسن. والقول أن الآية منسوخة بالزكاة غير صحيح; لأن سورة "براءة" من آخر ما نزل، وقد كان الأمر بالزكاة في سورة المزمل وهي مكية من أول ما نزل، وأثني على فاعلها في سورة قد أفلح ، وهي مكية. وقد كان إخراج الزكاة بالمدينة قبل "براءة" ظاهرا، يبعث السعاة فيها والعمال عليها.

وقول الله -عز وجل-: ولا ينفقونها في سبيل الله [التوبة: 34] محتمل أن يريد جميع من سمى في الآية الأخرى في قوله: إنما الصدقات للفقراء... [التوبة: 60]; لأن كل ذلك من سبيل الله. قال مالك: سبل الله كثيرة. ويحتمل أن يريد الجهاد بقوله: في سبيل الله ; لأن الجهاد أحد الوجوه التي تصرف فيها الزكاة، ولا خلاف أن ذلك لم ينسخ.

واختلف الناس في نصاب الذهب، فقيل: المعتبر فيه الفضة; لأن الحديث [ ص: 863 ] فيه لم يصح، فمن ملك من الذهب ما يبلغ قيمته نصاب الفضة وجبت فيه الزكاة، وإن كان عدده أقل من عشرين دينارا، وما لم يبلغ قيمته نصاب الفضة لم تجب فيه زكاة وإن كان عدده أكثر من عشرين دينارا، فإن اتفق أن كان العدد عشرين دينارا والقيمة مائتي درهم وجبت الزكاة قولا واحدا.

والقول الأول أصوب; لأن الحديث قد صحبه العمل بالمدينة. قال مالك: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم.

وهذا مما يتكرر نزوله، ويشهد العمل به، فلا يعارض بقياس ولا غيره، والأوقية أربعون درهما، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان صداق النبي -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا". والنش : نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم. انتهى قولها، أخرجه مسلم.

والدينار: درهم وثلاثة أسباع درهم، وهو سبع العشرة. والعشرة دراهم: سبعة دنانير، ولا خلاف في ذلك. [ ص: 864 ]

فصل

واختلف إذا كانت العشرون دينارا نقصا، وتجوز بجواز الوازنة على ثلاثة أقوال: فقيل: فيها الزكاة. وقيل: لا زكاة فيها. وقيل: إن كان النقص يسيرا زكيت وإلا فلا.

قال مالك في الموطأ: فيها الزكاة دنانير كانت أو دراهم وإن كانت بينة النقص. ولم يحد في النقص حدا.

وقال في كتاب محمد: فيها الزكاة وإن كان كل دينار ينقص عن الوازن ثلاث حبات، وذكر الأبهري عنه أنه قال: لا زكاة فيها إلا أن يكون ذلك النقص مما تختلف فيه الموازين، فإن كان النقص في أكثر الموازين فلا، فراعى في هذا القول الوازن، ولم يراع الجواز.

ولابن القاسم في العتبية: التفرقة بين النقص الكثير واليسير. وقاله مالك أيضا.

والقياس أن لا زكاة فيها إذا كانت تنقص عن القدر الذي أوجبه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه حد لنا حدا تجب به، فما دونه لا زكاة فيه.

والاستحسان أن يزكى لما كان مالكها ومالك الوازنة فيما يتصرفان فيه بهما سواء. فإن كان النقص كثيرا، ولا تجوز بجواز الوازنة- لم تجب فيها الزكاة قولا [ ص: 865 ] واحدا، وكذلك إذا كان النقص من عدد الدنانير أو الدراهم قليلا أو كثيرا.

فإذا كانت الدراهم غير خالصة; مختلطة بالنحاس مثل الدراهم الجارية اليوم- فإنه ينظر إلى وزن ما فيها من الفضة، وقيمة ما فيها من النحاس. ويختلف هل تقوم السكة أم لا؟ وأن تقوم أبين.

وتضاف الفضة والذهب في الزكاة، فمن كان عنده عشرة دنانير، وأوقيتان ونصف فضة- وجبت فيها الزكاة، وأخرج من كل واحدة ربع عشره، ومن وجبت عليه زكاة ذهب; فلا بأس أن يخرج عنها دراهم; لأنها أسهل على الفقير من التصرف بها، ولأن الصرف لا يختلف، فلم يدخل عليهم في ذلك ضرر.

واختلف هل يخرج عن الدراهم ذهبا أم لا؟ فأجازه مالك في المدونة، وقيل : ليس ذلك له; لأنه يكلف الفقير ما كان له مندوحة عنه، فإن فعل أجزأ; لأنه لم يغبنه في قيمة ولا أجرة لمن يتكلف صرف مثل ذلك.

وإذا أخرج عن الذهب فضة أو عن الفضة ذهبا، فإنه يخرج قيمة ذلك; لأن المساكين بذلك الجزء كالشركاء، فجاز أن يشتريه بما كان يبيعه الفقير لو دفع ذلك إليه، وقد قيل غير ذلك مما هو خطأ، وإذا كان مع رجل أربعون دينارا مسكوكة; أخرج دينارا منها. [ ص: 866 ]

وإن كانت عشرين دينارا صحاحا; كان بالخيار، فإن أحب أخرج قيمة نصف دينار مسكوك، أو أخرج دينارا فباعه فأعطى المساكين نصف ثمنه وأمسك لنفسه نصفه; لأنه لا اختلاف أنه يخرج عن أربعين دينارا، منها مسكوكا أو مثله، فكذلك إذا كان الواجب فيها نصف دينار; فإنه يخرج قيمة نصف المسكوك، ولو كانت الأربعون سككا مختلفة أخرج قيمة ربع عشرها.

واختلف في الحلي إذا كان للتجارة وهو غير مدير.

فقيل: يخرج ما وجب عليه من ذلك مصوغا، أو قيمة ذلك الجزء على أنه مصوغ; لأن الصياغة تبع، فيجري على حكم الأكثر.

وقيل: يخرج عن الذهب دون الصياغة، فيخرج وزن ذلك الذهب ومثله في الجودة على أنه غير مصوغ; لأن الصياغة كالعرض، فإذا باعه بعد ذلك، أخرج عما زادت الصياغة، إلا أن يكون مديرا، فيخرج عن قيمتها مصوغا.

وأما الآنية فيخرج عن الوزن دون الصياغة التي فيها، قولا واحدا. وقال ابن القاسم في المدونة: وإن كان وزنها خمسمائة درهم، وقيمتها لموضع الصياغة ألفا، خرج عن الوزن وحده.

قال: ولو اشترى إناء مصوغا، وزنه عشرة دنانير، وقيمته عشرون- لم يزكه الآن. فإن باعه بما تجب فيه الزكاة- زكاه ساعة بيعه إذا حال الحول بمنزلة ما لا تجب فيه الزكاة يحول عليه الحول، فربح فيه فباعه بما تجب فيه الزكاة- فإنه يزكيه مكانه. [ ص: 867 ]

ومحمل جوابه، على أنه يراد به التجمل دون الاستعمال. ولو كان يراد للاستعمال لكسرت في يد من هي في يده، وإن باعها نقض البيع، فإن أفاتها تصدق بما ينوب الصنعة; لأنه ثمن لما لا يحل.

فإن كانت تراد للتجمل خاصة- صح الجواب على ما قال في المدونة; لأن ذلك غير محرم، ويحتمل أن يكون ذلك عنده مما يكره، فأمره أن يزكي عن الوزن; لأنه لا يستحسن بقاءها للتجمل. فإن باعها على حالها- مضى البيع وزكى عن الثمن، أو يقول: ذلك جائز ابتداء. فيزكي عن الوزن دون الصياغة إذا كان له قدر وبال، حسب ما قال إن الوزن خمسمائة، والقيمة ألف، أو الوزن عشرة، والقيمة عشرون، ولو كانت تبعا لزكى عن جميع ذلك قبل البيع على القول أن الأتباع لا تراعى.

وإن كان مديرا زكى عن الجميع وإن لم تكن تبعا، ويلزم على قوله إذا لم تكن تبعا وكان مديرا في تلك الآنية- أن يزكي الآن، ويتم بالصياغة النصاب إذا كان الوزن عشرة، والقيمة عشرون، وهو بمنزلة رجل في يده عشرة دنانير، وعرض قيمته عشرة وهو مما يدار. [ ص: 868 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية